افريقيا و العالمكتابات راي

توتر وعنف في القرن الإفريقي


يتصل ملف سد النهضة بمشروع استراتيجى أكبر وهو طريق الحرير الجديد. فلقد وضعت الصين استثمارات كبيرة فى إثيوبيا وجعلتها نقطة ارتكاز أساسى فى المحور التنموى كيب تاون ــ القاهرة الذى تعمل على تنفيذه ليغير من طرق النقل داخل القارة الإفريقية. وهو ليس المحور الوحيد، ولكن توجد محاور أخرى عديدة، منها الطولى، ومنها العرضى، مثل محور بورسودان، تشاد، الكاميرون، وهو أقصر مسافة برية من البحر الأحمر إلى المحيط الأطلسى. وتشير بعض الدراسات الاستراتيجية، بأن ما جرى من معارك ومصادمات فى إثيوبيا منذ نهاية 2020 بين أقلية التيجراى والحكومة الإثيوبية، ما هو إلا الجزء الظاهر من صراع أشد، بين الولايات المتحدة والصين حول مسار طريق الحرير الجديد، الذى تريد الولايات المتحدة عرقلته داخل القارة الإفريقية، ولذلك حركت أذرعها لافتعال مشكلة داخلية بإثيوبيا. ويبدو أنها نجحت إلى حد ما، فلقد استنزفت إثيوبيا وانشغلت بصراعها الداخلى، مما أدى لتراجع معدلات البناء بالسد، وتراجع معدلات توليد الكهرباء عن المستهدف المخطط له. لكن كيف سيكون شكل التصعيد المتبادل بين الصين والولايات المتحدة بعد زيارة نانسى بيلوسى إلى تايوان؟
الشاهد أن الولايات المتحدة تعرف جيدا كيف تستعمل ميدانيا جماعات التخريب، وتضعها فى إطار تحركات تكتيكية معينة تخدم أهدافا استراتيجية كبرى، سواء أدركت الجماعات ذلك أو جهلته. وبدون الدخول فى تفاصيل كثيرة إليكم بعض عناوين الأخبار ومانشيتات الصحف خلال الأسابيع القليلة الماضية والتى تدلل على ظهور نشاط لهذه الجماعات التخريبية فى القرن الأفريقى. ففى 21 يوليو الماضى نشرت المصرى اليوم الخبر التالى ««الشباب الصومالية» تقتل 17 شرطيا إثيوبيا فى هجوم على منطقة حدودية». وفى 29 يوليو كتبت سكاى نيوز عربية «هجوم أوغادين.. نيران تهب على إثيوبيا من داخل الصومال». وفى 31 يوليو نشر موقع العين الإماراتية «سلاح الجو الإثيوبى يقصف تجمعات لمسلحى «الشباب» داخل الصومال». وفى 5 أغسطس الجارى نشرت جريدة الشرق الأوسط «إثيوبيا كهدف لـ«القاعدة».. هل يتوسع التنظيم أفريقيا بعد الظواهري؟ مقاتلوه كرروا هجماتهم على مواقع حدودية مع الصومال». وفى 7 أغسطس نشر موقع الرئيس الإخبارى «مقتل 800 شخص من «الشباب الصومالية» مع استمرار المواجهات مع إثيوبيا». وفى 22 أغسطس نشرت السودان تريبيون «بعد تمدد حركة الشباب المجاهدين الصومالية.. السودان وإثيوبيا فى أجندة (القاعدة)».

• • •

توضح هذه العناوين الصورة، حيث نشطت الجماعات التخريبية بطريقة مفاجئة على الحدود الصومالية الإثيوبية. علما بأن الحركات المتاجرة باسم الإسلام والتى يستغلها البعض عن عمد لوصم الدين بالإرهاب، لم يكن لها نشاط يذكر فى إثيوبيا. وأول إعلان صدر من إثيوبيا عن وجود لتنظيم داعش الإرهابى يعود لعام 2015. وحينها أعلنت إثيوبيا القبض على أول خلية ضمت 20 شخصا. لكن فى الوقت الراهن، لا يسعنا إلا التوقف أمام النشاط المفاجئ لهذه الجماعات فى القرن الأفريقى ونطرح بعض الأسئلة. من هم إخوان الحبشة وما هو هدفهم؟ لماذا تحول نشاط المحاكم الصومالية من العمل فى اتجاه كينيا ورواندا وتنزانيا إلى العمل باتجاه إثيوبيا؟ هل نجح التعاون الذى تنظمه كينيا ورواندا ومصر وأوغندا منذ منتصف عام 2021 فى الحد من تأثير هذه الجماعات فى وسط أفريقيا ومنابع النيل الأبيض؟ وهل ثمة علاقة بين نشاط هذه الجماعات المفاجئ وتولى حسن شيخ محمود رئاسة الصومال المعروف بانفتاحه على مصر، خلفا لفرماجو الذى كانت له سياسات مؤيدة لإثيوبيا؟ وهل للقيادى سيف العدل الذى ترجح التكهنات قيادته تنظيم القاعدة بعد الظواهرى دور فيما تنشط الجماعات بالقرن الإفريقى؟ علما بأن سيف العدل من مخططى هجمات عام 1998 التى ضربت سفارتى الولايات المتحدة فى نيروبى (كينيا) ودار السلام (تنزانيا).
بعض التحليلات تشير إلى أن كل رئيس أمريكى منذ الرئيس كارتر عرف كيف يستعمل الجماعات الإرهابية لخدمة الأهداف الأمريكية. وتنوعت طرق الاستعمال، فتارة يسلحونهم ويطلقون عليهم مقاتلى الحرية، وتارة يهجمون عليهم ويدمرون الدول بحجة إيوائها عناصر إرهابية. ثم نفض الرئيس السابق ترامب يده من التعاون مع كل الجماعات، وكاد أن يعقد صفقة لخروج قوات بلاده من أفغانستان لولا خسارته الانتخابات. لكن الرئيس الحالى بايدن أبعد ما يكون عن الوضوح الأقرب للاندفاع الذى تميز به ترامب. ومن ثم لا نستطيع الجزم ما إذا كان الانسحاب الأمريكى من أفغانستان الذى تبعه استهداف الظواهرى فى كابول، هو إشارة لتنشيط العمليات على المسرح الآسيوى والمسرح الأفريقى معا! وإذا صحت هذه التوقعات، فإن الولايات المتحدة تكون بذلك تستهدف خلق مناطق توتر على مسار طريق الحرير من منابعه فى الصين إلى روافده فى آسيا وإفريقيا.

• • •

مهما كانت الأسباب التى دفعت الجماعات لتفعيل نشاطها واستهداف إثيوبيا فإن هذا الاستهداف على حدودها الجنوبية والشرقية يضاف إلى مخاطر أخرى على حدودها الغربية. فلقد تجدد نزاع إثيوبيا الخارجى مع السودان، وكانت آخر محطاته نهاية يونيو الماضى عندما أعدمت قوات إثيوبية سبعة جنود من القوات السودانية. وقالت أديس أبابا عن الحادثة أنها مدبرة لإحداث وقيعة بين الطرفين. لكن فى المقابل، جدد البرهان، رئيس المجلس السيادى السودانى تعهده بأن هذا «العمل الغادر لن يمر من دون رد». ويستمر التوتر بمنطقة الفشقة الحدودية بين الدولتين بينما يدعو الاتحاد الإفريقى إلى «ضبط النفس».
على أى حال، تطوير عمل سد النهضة يعتمد على ثلاثة عوامل. أولا، حالة الاستقرار الداخلى بإثيوبيا، وارتباط ذلك بملف الفساد الذى أضعف قدرة الحكومة على التنفيذ مما أدى لتباطؤ معدلات الإنجاز بالمشروع. ثانيا، مدى استقرار العلاقات بين إثيوبيا والسودان من جانب، التى استعصت الدبلوماسية على رأب الصدع بينهما، وعلاقتها بالصومال، أو بالأحرى قدرتها على صد الجماعات الإرهابية من جانب آخر. ثالثا، وقوف الولايات المتحدة بالمرصاد لمشروع طريق الحرير الصينى، مما ينعكس سلبا على إثيوبيا. وطالما بقيت القيادة الإثيوبية بدون تغيير، سيستمر رهان إثيوبيا على بكين. لكن دخول عنصر الجماعات الإرهابية إلى المشهد، مع إمكانية تفعيل دور إخوان الحبشة بداخل إثيوبيا نفسها يغير المعادلة. وقد يسفر ذلك عن تغيير على مستوى القيادة يأتى على هوى الولايات المتحدة، لكنه سيستمر مثل القيادة الحالية فى مسارها المعاكس لمصالح مصر.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق