وداعاً “هدراوي” فيلسوف الصومال وحكيمها
نبيل البكيري
لم تُشاهَد الأمة الصومالية مجتمعة مثلما جمعها، أخيرا، الحزن على موت شاعرها وأديبها وحكيمها وفيلسوفها الكبير محمد إبراهيم ورسمى، المكنى “هدراوي”، الذي وافاه الأجل في 19 أغسطس/ آب الحالي، عن 79 عاما، عاشها متنقلا في بلاد الله الواسعة، ليختم رحلته الطويلة هذه في مدينة هرجيسا عاصمة إقليم صوماليلاند، بعدما غادرها باكرا في عمر العاشرة إلى عدن التي درس فيها، وبقي فيها نحو 20 عاما تلميذا وأستاذا كبيرا في مِعلامَاتها ومساجدها ومدارسها وأنديتها التي منحته لقبه هدراوي لكثرة حديثه.
خيمت سحابةٌ حزن كبيرة على أفراد الأمة الصومالية في الدخل والخارج فور سماعهم خبر موت شاعرهم وحكيمهم الكبير، الذي أثرى لغتهم أدبا وشعرا وفلسفة وحكمة، وقدّم صورة عظيمة للإنسان والمثقف والمناضل الملتزم بقضايا أمته وحامل رسالتها بين الأمم، بوصفها أمة لها تاريخها وتراثها وثقافتها وأصالتها، التي تحتل بها مكانة عظيمة تليق بها، أمة ضاربةٌ جذورها في أعماق التاريخ. فلكل أمة أعلامها ومفكروها وفلاسفتها الذين يمثلون ضميرها الروحي والفكري والثقافي، فكما للإنكليز شكسبيرهم وللهند طاغورهم وللفرس فردوسيهم وللروس بوشكينهم، وللعرب رموزهم الكبار، المتنبّي وغيره، فكذلك للأمم الأخرى رموزها، كهدراوي الذي يمثل رمزا للأمة الصومالية وضميرها الفكري والثقافي.
لم يكن هدراوي مجرد شاعر يجيد نسج الكلمات فحسب، بل كان إنسانا فريدا، كريما شجاعا لا يهاب في قول الحق وما يراه صوابا، هذه الشجاعة التي دفع ضريبتها الكثير سجنا وتشريدا ومنافي، ولم يثنه شيء عن قول ما يعتقده ولو كان ثمنه حياته، فقد انضمّ مبكّرا لتيارات اليسار التقدمي في عدن، صوتا للعالم الثالث في وجه رأسمالية الغرب وجشعه.
ومع توجهه التقدمي اليساري المبكر، ظلّ الشاعر والفيلسوف الصومالي محافظا على هويته الإسلامية المتلزمة، ولم يتماهى مع ما كان يقتضيه الانخراط في هذا المسار من تخلٍّ عن قيم وأخلاقيات اجتماعية ودينية لا تمثل عائقا أمام النضال والتقدّم مطلقا، كالالتزام الديني والأخلاقي تجاه عادات هذه المجتمعات وتقاليدها، مثل كثيرين تخلوا عن هذه العادات والتقاليد، تماهيا مع موجة الفهم المغلوط للتقدّمية اليسارية.
ظلّ هدراوي ممسكا بقيمه وتقاليده، رافضا كل وافد من الأفكار التي لا تحترم خصوصية كل مجتمع وإيمانه وروحانياته، التي لا تتعارض مع الإيمان بحقوقه الاجتماعية وحقّه في حياة حرّة كريمة، ولهذا واجه مبكرا جشع المستعمرين، البريطاني والإيطالي على حد سواء، واحتلالهما بلاده ونهب خيراتها، كما واجه استبداد سياد بري وديكتاتوريته لاحقا.
كانت للرجل فلسفته الخاصة لكل القضايا التي تواجهها مجتمعات الشرق كلها في الصومال واليمن وأفريقيا، عبر عنها في كتاباته ومحاضراته وأشعاره وحكمه، وكانت تصدر من فهم عميق لهذه المجتمعات ونفسياتها وأمراضها وأدوائها، فكانت للرجل رؤيته العميقة، وخصوصا إلى الاستعمار وما بعد الاستعمار وإلى الحداثة وفلسفتها التي ترتكز على إشكالاتٍ كثيرة لا علاقة لها بمجتمعاتنا، وإنما بمجتمعات الغرب ومشكلاته.
لهذا كان منظور هدراوي للحداثة نابعا من فهم عميق لهذه المجتمعات ولدور الإسلام فيها، دورا بنّاء لا يمكن علاج مشكلات هذه المجتمعات بعيدا عن رؤية الإسلام وقيمه ومعالجاته لها، وأنه لا يمكن استيراد علاج لأمراض هذه المجتمعات من خارجها، وأن علاجها يكمن في رؤية تجديدية متحرّرة ضمن مبادئ الإسلام وقيمه ذاتها، وليس بالتنكر لها وتجاوزها.
عاش هدراوي حياة متقشفة زاهدا في كل شيء، عاش للناس مدافعا عن حقوقهم، وراسما أحلامهم وآمالهم، ومعبّرا عن أشواقهم الكبيرة وتطلعاتهم، شعرا ونثرا، عاش حياة الدراويش الأوائل، على خطى سلفه العظيم محمد عبد الله حسن (1856 – 1920)، كما عاش وحدويا على نهج أبو الأمة الصومالية وموحّدها، الزعيم أدم عبد الله عثمان (1908 – 2007)، وأول رئيس للجمهورية، الذي ترك الرئاسة نزولا عند نتائج أول انتخابات ديمقراطية في العالم الثالث كله.
لم يعش هدراوي لنفسه، وكان يمكنه ذلك، لسمعته وشهرته ومكانته، لكنه نسي نفسه وأفنى عمره في خدمة أمته، فقد سافر ذات مرّة إلى لندن التي كان يكره حكومتها الاستعمارية. وفي أحد لقاءاته بهم، قالوا له لماذا تركت الصومال وأتيت إلينا، ألم تكن محرّضا ضدنا، قال لهم، جئت لأستعيد حقوقنا وثرواتنا التي سرقتموها من الصومال، ولم آت إليكم لاستجلاب عطفكم وشفقتكم علينا.
عاش الرجل فقيرا، لا يستأثر بشيء يأتي إليه من مكرمات كانت تأتيه ممن يعرفه ويعرف مكانته من رجال المال والأعمال الصوماليين، ففي إحدى المرّات، وصل إليه مبلغ كبير بمناسبة زفافه من أحد الزعماء الصوماليين، فأخذ المبلغ وخرج للناس موزّعا هذا المبلغ كله عليهم، ولم يبق له منه شيء، قائلا “لا أريد أن أدنس حياتي بمالٍ لا أدري مصدره، ما أعرفه أنه من أموال الشعب والشعب أولى به”، ولم يدخل بيته إلا ولم يعد لديه شيء من ذلك المبلغ الكبير.
وتُذكر هنا رحلته من هرجيسا إلى مقديشو، نهاية العام 2003، التي دعا فيها إلى المصالحة وإنهاء الحرب، وأهمية استعادة روح التضامن بين أبناء الأمة الصومالية الواحدة. ففي تلك الرحلة، التي ضمّت قافلة كبيرة من الشاحنات والسيارات، حاملة معها مئات الأطنان من المواد الإغاثية والغذائية لجنوب الصومال لمواجهة المجاعة هناك، تلك الرحلة التي جسّد فيها روح التضامن والوحدة ومواجهة الحرب والفرقة الصومالية.
وهكذا عاش حياته كلها مكافحا من أجل أمة صومالية واحدة، عاش زاهدا، لا يدّخر شيئا للغد، مؤمنا أن رزقه سيأتي إليه. وبهذه القناعة الفريدة المترفعة عن كل شيء، قضى حياته في تعليم الناس وإرشادهم، نافخاً بشعره ونثره روح الإباء والكرامة، ناشراً قيم الوحدة والتضامن، لكنه ككل الحكماء الذين يفنون أعمارهم في سبيل خدمة أمتهم، لم يورث شيئا سوى دواوين أشعاره وخطبه ومحاضراته الكثيرة التي تفتقر للاهتمام والنشر والترجمة للعربية وبقية اللغات الأخرى.
ختاماً، تزخر الصومال، ككل المجتمعات الحية، بتراث فكري وثقافي وديني ثري، لكن المشكلة أمام هذا التراث الكبير والعظيم، التجاهل الكبير من أبنائه ومثقفيه، وحاجز اللغة التي يحتاج الشباب الصومالي المتطلع للعلم والمعرفة إليها كي يقوموا بجهود كبيرة لترجمة هذا التراث إلى العربية أولا، فكم يجهل العرب الكثير عن هذه الأمة العظيمة التي تزخر بتاريخ عظيم من الكفاح والنضال والإباء، رغم كل ما تعانيه اليوم من شتاتٍ وفرقةٍ وتمزّق وضعف.
أتمنّى أن تكون ترجمة تراث الشاعر والفيلسوف والحكيم محمد إبراهيم هدراوي مقدمة للانكباب على إخراج تراث الصومال وأعلامها الكبار ونشره وترجمته، الأمة التي كانت تحتل مكانة كبيرة في مقاومة الاستعمار والحفاظ على تراث الإسلام معا، حيث كانت مدينتا زيلع وهرر من أهم حواضر الإسلام ومراكزه في شرق أفريقيا، وعلى امتداد قرون، وكم هي بحاجة اليوم لإعادة الاعتبار لهذا التراث الذي سيكون زادها الفكري والثقافي للانطلاق نحو المستقبل، فلا مكانة لأمةٍ لا تراث لها ولا تعتني بتاريخها.
رحم الله المفكر والشاعر والأديب والفيلسوف الصومالي الكبير محمد إبراهيم ورسمى هدراوي.
*كاتب يمني