المصريون يشعرون بأن قضية السد لم تعد في صالحهم، وأن إثيوبيا قد نجحت في أن تحول عدم الاهتمام الدولي إلى أمر واقع ورسالة رمزية عن قدرتها على المناورة وربح الوقت. واللجوء إلى مجلس الأمن هو محاولة مصرية لجعل الموضوع تحت الأضواء وليس البحث عن نصر مع مجتمع دولي تحكمه المتناقضات.
يؤكد لجوء مصر إلى مجلس الأمن اعتراضا على التصرفات الأحادية التي تقوم بها إثيوبيا في عملية ملء سد النهضة محدودية التصورات الإقليمية لوضع حل لهذه الأزمة، وأن الرهان على تدخلات فردية من قبل قوى دولية مسألة غير مجدية، ما يشي بضيق الخيارات أمامها وحاجتها إلى سياسات أخرى عملية.
وتبدو العودة إلى المجلس مرة أخرى الجمعة محاولة رمزية تبقي على الملف في دائرة الأضواء، لكنها توحي بأن القاهرة استنزفت كل وسائل الضغط المباشرة وغير المباشرة لحث أديس أبابا على القبول باتفاق مُلزم لتشغيل السد الذي شرعت إثيوبيا في المرحلة الثالثة والحاسمة من ملئه قبل أيام، وتلقت الحكومة المصرية إشعارا رسميا في السادس والعشرين من يوليو الجاري يفيد بذلك.
وتعكس رسالة الاعتراض نوعا من إثبات الحق السياسي ولا تنطوي على حق مادي، فقد لجأت القاهرة إلى مجلس الأمن سابقا وجرت مناقشة الأزمة أمام الأعضاء العام الماضي دون الحصول على مواقف مؤيدة لها، وتلقت إثيوبيا إشارات إيجابية أفادت بتفهم قوى كبرى لأهمية سد النهضة من الناحية التنموية وأحقيتها في تشييده.
وخرجت الدبلوماسية المصرية من هذه الجولة بلا نتائج ملموسة تعزز رؤيتها وتشجعها على المضي في هذا الطريق، وعرفت أن توازنات القوى الدولية في الأزمة لن تعمل لصالحها، وتقديرات الكثير من القوى الكبرى لا تميل إلى التدخل لأجل التوصل إلى حل منصف وعادل كما تريد الإدارة المصرية.
ومرت عملية الملء الأول ثم الثاني العامين الماضيين وبدأت إثيوبيا في المرحلة الثالثة من الملء أخيرا في غياب تام للاكتراث الدولي أو تعرضها لضغوط تجبرها على الاستجابة لرؤية كل من مصر والسودان والتوقيع على اتفاق مُلزم، ولم يشفع التفهم الدبلوماسي من بعض القوى للقاهرة في تحويله إلى تحركات حقيقية.
ويحمل خطاب الاحتجاج المصري لمجلس الأمن ملامح يأس من التحركات خلال الفترة المقبلة، فكل التصورات التي تبناها الاتحاد الأفريقي ولجان الوساطة الإقليمية تحطمت على عتبات التشدد الإثيوبي وعدم القناعة بمبررات الموقف المصري، وهو ما ظهرت تجلياته في اختفاء الحديث عن دور لأي من الدول الأفريقية، في إشارة تؤكد استنزاف الحلول التي يمكن أن تقدمها هذه الدائرة.
وراهنت القاهرة على الاستفادة من الصراعات بين القوى الكبرى على خلفيات الأزمة الأوكرانية ورغبة القوى الفاعلة فيها تكتيل المواقف، واعتقدت مصر أنها يمكن أن تحصل على تأييد من روسيا وتفهما من الولايات المتحدة يصب كلاهما في التدخل بصرامة ودعم حل في أزمة سد النهضة يحفظ حقوق الدولة المصرية مستقبلا.
وقام وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف بزيارة كل من مصر وإثيوبيا أخيرا وعاد إلى موسكو ولم يتطرق إلى الأزمة مباشرة، على الرغم من أن بعض التوقعات أشارت إلى إمكانية أن تتدخل روسيا بالوساطة فيها وإيجاد حل يرضي جميع الأطراف.
وجاء المبعوث الأميركي إلى القرن الأفريقي مايك هامر في التوقيت نفسه تقريبا وذهب إلى البلدين ومعهما دولة الإمارات ولم ترشح معلومات تفيد بأن هناك تصورا أميركيا محددا يتعلق بسد النهضة حتى الآن، وبدا الاهتمام من قبله منصبا على الهموم الداخلية في إثيوبيا وتداعيات الحرب في إقليم تيغراي.
وخرجت القاهرة من الزيارتين بانطباع أن القوتين غير معنيتين بهذا الملف، وعليها أن تضاعف من تحركاتها على الساحة الدولية، فالخيارات تضيق أمامها وإثيوبيا تواصل البناء والملء وبدأت في مرحلة توليد الكهرباء، ما يعني أن السد بات أمرا واقعا.
وأدى الرهان على الحلول السياسية واستبعاد الخيارات العسكرية إلى وضع الحكومة المصرية في ورطة، فلم تجد تجاوبا أو تفهما واضحا لرؤيتها على المستوى الأول، وأصبح جسم السد قائما لا تصلح معه أي خشونة لأن ارتداداتها يمكن أن تغرق جزءا كبيرا من السودان بعد أن تزايد مخزون المياه خلف سد النهضة.
كما أن الأزمات الداخلية التي تمر بها إثيوبيا لم تمنع حكومتها من استكمال مشروع السد، وعلى العكس ضاعفت من أهميته كرمز للإرادة الوطنية وتحدي الصعاب، ففي خضم توترات ملتهبة في الداخل وتحديات متشعبة مع الخارج نجحت في تحقيق أهدافها وفوتت الفرصة على القاهرة في الاستجابة لرؤيتها المتعلقة بتوقيع اتفاق مُلزم.
وقللت الإدارة الفنية لعملية الملء من الضغوط التي يمكن أن تتعرض لها إثيوبيا، وقدمت بعض التصرفات المصرية رسائل أجهضت التعاطف معها، ودارت حرب خفية بين الجانبين حاول كلاهما أن يثبت حسن نواياه لجذب نوع من تعاطف المجتمع الدولي، وظهرت معالم معركة استخدم فيها كل طرف حنكته لتدعيم موقفه.
ولم تتسبب عمليات الملء الأول ثم الثاني في حدوث أضرار مباشرة على مصر، وأجهضت إثيوبيا الحجة في هذه المسألة، إذ اعتمد خطاب القاهرة على أن السد سوف يؤدي إلى أزمات في الزراعة وتخفيض مستوى المياه المتدفقة إلى البلاد، وهو ما لم يحدث حتى الآن، وغير متوقع حدوثه عقب الانتهاء من المرحلة الثالثة من الملء، كما أن مشروعات تحلية المياه وتبطين المصارف ووقف الهدر أشارت إلى أن مصر قادرة على التعامل مع إفرازات السد في المستقبل.
وسواء قصدت أديس أبابا التمهل في الملء أو كان البطء لأسباب فنية، ففي الحالتين لم تمنح القاهرة الفرصة لتقيم عليها حجة وقوع الضرر وامتلكت فرض الإرادة والتصرف في مياه النهر بالطريقة التي تناسبها، طالما أنها لم توقع خسائر بالغة بمصر أو السودان، وهو المقياس الذي يحدد به المجتمع الدولي مستوى الضرر.
وكشف التركيز المصري على التحركات الدبلوماسية عدم قدرة هذه الآلية على تغيير التوازنات، فالحق ما لم تكن خلفه قوة كبيرة تحميه، مادية أو معنوية، لا يكفي لمنع وقوع الخسائر، فقد اعتمدت القاهرة على رصيد ظاهر تملكه من العلاقات الإقليمية والدولية لدعمها، غير أن هذه القضايا تحتاج إلى درجة عالية من تبادل المصالح.
وحصدت السياسة المصرية دعما معنويا غير مؤثر في الموقف العام، فالقوى التي ناصرت أديس أبابا أو التي تحفظت على تأييد القاهرة أقامت حساباتها على توازنات قوى دقيقة تنطلق من حجم المكاسب التي يمكن أن تجنيها من دعم أي من الدولتين.
وتنطوي عودة مصر إلى مجلس على رغبة متكررة في إثبات حالة وكأنها ضبطت إثيوبيا متلبسة بالقيام بفعل فاضح، في حين أن العالم كله يقف شاهدا عليها ولم يحرك ساكنا، ما يعني أن الخطوة لن تغير من الأوضاع الراهنة أو تحض أي من القوى الدولية على تبني موقف مؤيد للقاهرة، فهناك مئات من القضايا المعروضة على مجلس الأمن جرى وضعها على الرف، يخشى مصريون أن يكون سد النهضة واحدا منها.
*كاتب مصري