بعد الانقسام والتفكك الذي عرفه السودان، مع تشكل دولتين شمالية واخرى جنوبية، وملامح مخاطر تتهدد هذا البلد بانفصال أجزاء أخرى على غرار دارفور، برزت نزعات انفصالية جديدة هذه المرة في القرن الافريقي، وبالتحديد في اثيوبيا، التي شهدت سحب اعتراف اقليم تيجراي بالحكومة المركزية الاثيوبية، وسط محاذير غربية من أن تشهد المنطقة استنساخا لنموذج يوغسلافيا، خاصة وأن المنطقة كانت قد شهدت أزمات متوالية، بداية بالأزمات بين ارتيريا واثيوبيا، والوضع المتأزم في الصومال.
إقليم تيجراي الذي اعتمد سياسة استقلالية عن الحكومة المركزية، شكل حكومة وبرلمانا خاصا، في وقت رفضت الحكومة الاثيوبية المركزية برئاسة ابي احمد الاعتراف بهذه الحكومة، بينما سحبت كومة الاقليم الاعتراف بحكومة ابي احمد ايضا، لترتفع حدة السجال القائم على خلفية قرارات عقابية يفرضها الجانبان، وسط مخاوف غربية متصاعدة، على غرار تحذيرات “هيرمان كوهان” الدبلوماسي المختص بالشؤون الإفريقية، الذي حذر، مؤخرا، من امكانية نشوب حرب أهلية في اثيوبيا، عقب اقرار البرلمان الفيدرالي في اثيوبيا عقوبات صارمة وقطع الدعم المالي عن اقليم تيغراي، وتخطيط من حكومة ابي للجوء الى القوة العسكرية لتأديب الاقليم المتمرد.
ولإدراك خلفيات وأبعاد الصراع، فإن اثيوبيا تنقسم الى عدة اقاليم وعددها 11، بما في ذلك العاصمة اديس ابابا وإقليم تيغراي الواقع في الشمال، ويحتل نطاقا جغرافيا استراتيجيا وحيويا، حيث تحده من الشمال إريتريا التي تبقى على مسافة سياسية بعيدة، وفي أزمة حادة مع اديس ابابا، ومن الغرب السودان الذي تبقى علاقاته أيضا مع إثيوبيا متأزمة، على خلفية ملف المياه “سد النهضة”، وسياسات إثيوبيا بخصوص السدود، ومن الشرق عفر ومن جنوبها إقليم أمهرة.
أما من الناحية القومية والعرقية، فإن إثيوبيا تتكون من طوائف عرقية عديدة، منها تسع رئيسية، حيث تتداول على السلطة قوميات محددة تبقى في يديها السلطة الفعلية، بينما تعاني قوميات أخرى التهميش وحتى الحرمان من المشاركة السياسية، مثل قومية الأورمو ذات الغالبية المسلمة.
ومنذ سنة 1991، برزت طائفة أو قومية تيغراي كإحدى أهم القوميات في تركيبة وبنية السلطة، سواء السياسية أو العسكرية، وإن كانت تمثل نسبة متواضعة من تعداد السكان، المتجاوز تعدادهم حسب آخر تقدير 110 مليون نسمة، بالمقابل تظل أبرز الطوائف الرئيسية في إثيوبيا من حيث التمثيل السكان والنفوذ السياسي قومية الأورمو، التي تعد كبرى القوميات الإثيوبية، تنتشر في جنوب غرب البلاد، وتشكل 40 بالمائة من سكان إثيوبيا، ويعتنق ما يزيد على 70 بالمائة منهم الاسلام، و20 بالمائة منهم المسيحية.
وتتكون منطقة “أوروميا” من عشرة أقاليم منها إقليم “شوا” الذي تقع في قلبه عاصمة البلاد أديس أبابا، وإقليم “هرر” الذي كان مملكة إسلامية طوال قرون عدة، وتتمتع بحكم شبه ذاتي، وتتبع الكونفدرالية الإثيوبية، وكان الأورومو وراء احتجاجات مطلبية، خاصة في 2016 و2017 تتعلق برفض التهميش الاقتصادي والسياسي، وايضا في مجال الحقوق والحريات.
مشكل اقليم تيغراي الذي طرح في ظرف خاص، يعد عاملا منغصا ومقلقا للحكومة المركزية وصانع القرار الاثيوبي، لكونه يأتي في ظرف تعرف فيه اثيوبيا أزمات اقليمية حادة، بداية بالأزمة القائمة بين اثيوبيا ومصر والسودان، على خلفية ملف المياه والسدود، والسجال القائم بالخصوص بين أديس أبابا والقاهرة، الى جانب فتور العلاقات بين اثيوبيا واريتريا، رغم اخماد نار الحرب بينهما، واتفاق السلام الموقع في 2018.
يضاف الى هذا، تبعات الوضع المتأزم وغير المستقر في السودان، رغم الدور الذي سعت اثيوبيا الى لعبه منذ تسوية الأزمة بين جنوب وشمال السودان، وكذا التداعيات الاجتماعية والاقتصادية التي تواجهها اثيوبيا، وبروز حالة من عدم الاستقرار الداخلي، الذي ابرزته المجزرة المرتكبة في منطقة “بني شانغول غوموز” الحدودية بين السودان واثيوبيا، ذهب ضحيتها 30 مدنيا، وقبلها مجزرة قريبة من المنطقة راح ضحيتها 50 شخصا، الى جانب قرار الحكومة الاثيوبية تمديد عهدة البرلمان القائم والغاء الانتخابات التشريعية العامة والمحلية بحجة جائحة كورونا، بينما اعتبرت المعارضة السياسية ان هناك مسعى لإبقاء السلطة في يد الحكومة التي يترأسها ابي احمد، الذي كان يفترض ان يسلم زمامها في 6 أكتوبر 2020 .
وبعد سنة من حصول ابي أحمد على جائزة نوبل للسلام لسنة 2019، تجد اثيوبيا نفسها أمام تحديات عديدة وأزمات متراكمة الى حد ادخال البلاد في هاجس “تقسيم المقسم او تجزئة المجزأ”.
فإذا كان التحدي الابرز يكمن في ثورة غضب اقليم الاوروميا والاورومو، من سنوات التهميش والاقصاء السياسي، واتهامهم السلطة المركزية بمواصلة سياسات التهميش ذاتها، والخسائر البشرية الناتجة عن الاحتجاجات، التي عادت في جوان 2020 خلفت أكثر من 200 قتيل، الى جانب آلاف الموقوفين، بما في ذلك رموز المعارضة الاثيوبية جاوار محمد وبيكيلي جيربا، تتهم المعارضة السلطة المركزية بإقصائها لمعارضيها قبل الانتخابات، لمخاوف تنتابها بخصوص امكانية فوزها بها.
وما يثير ثورة الاقاليم أن ابي احمد عمد إلى الارتكاز في ادارة وتسيير الحكم واختيار مقربيه، على قومية الامهارا بالخصوص، وهم من المسيحيين الارثوذوكس القريبين من روسيا، ومرجعيتهم الكنيسة الارثوذوكسية في هذه الاخيرة، بينما ابي احمد المسيحي البروستانتي قريب من الولايات المتحدة.
وتبقى اثيوبيا بتركيبة فسيفسائية ونظام فيدرالي بخلفيات متعددة، مع بروز عدة بؤر للتوتر، مقابل نزعة انفصالية لاقليم التيغراي، ووسط هذه التشنجات دخل كاتب الدولة الامريكي للخارجية مارك بامبيو على الخط، مشيرا الى دعم والتزام امريكي لإجراء انتخابات مقبلة في جميع انحاء افريقيا، وقد بدا التصريح رسالة امريكية لصناع القرار في اثيوبيا، رغم كون اثيوبيا طرفا حليفا لواشنطن.
ويبرز هذا التوجه توجسا من امكانية الغاء النظام الفيدرالي القائم على الحكم الذاتي للاقاليم، وهو ما يؤدي إلى غلبة الامهارا الذين يسيطرون على اهم أجهزة السلطة، بما في ذلك القيادات العسكرية، مما يثير حفيظة القوميات التي بدأت تثور وسط مخاوف ابي احمد من أن تقود الانتخابات التي تم الغاؤها إلى تقويض حكمه وسلطته، وهو الذي لم يأت من قبل بانتخابات، بل كخيار حل وسط خلال الثورة على هيلاسيلاسي.