كشف نفي عبدالكريم علي المتحدث باسم الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود التطرق إلى ملف سد النهضة الإثيوبي في لقائه مع نظيره المصري عبدالفتاح السيسي بالقاهرة أخيرا، أن بلاده ترفض الزج بها في هذا الملف، حيث لا تريد القيادة الجديدة أن تبدو مؤيدة لموقف مصر فتدخل في أزمة مع جارتها إثيوبيا.
وأوحى توقف عبدالكريم عند هذه المسألة برغبة الصومال التخلي عن الحرب بالوكالة، العسكرية والدبلوماسية، والتي انتشرت في الكثير من ربوعه وأفضت إلى دخول حرب أهلية لم تنته معالمها بعد، وأن فكرة الانحيازات المجانية للدول في قضايا حيوية محل إعادة نظر من قبل القيادة الصومالية.
وتسلط هذه الواقعة الضوء على ملامح خلط لدى المصريين بين ما هو تكتيكي وما هو استراتيجي في العلاقة مع الصومال، الذي يشرف على الممر الجنوبي للبحر الأحمر ويمثل أهمية فائقة للقاهرة، التي باتت ترهن جزءا كبيرا من علاقاتها مع دول القرن الأفريقي بسقف رغباتها وتوقعاتها وأمنياتها بالنسبة لأزمة سد النهضة.
ومضت بضعة أيام على لقاء شيخ محمود مع السيسي (الاثنين) وتصريحات المتحدث الصومالي (الثلاثاء) ولم تصدر الرئاسة المصرية توضيحا يرد على نفيه وما حمله من تفسيرات سياسية متباينة، وهو ما يضفي مصداقية على كلامه.
وقال عبدالكريم علي بشكل محدد “إن الجانبين لم يتطرّقا خلال المفاوضات والمؤتمر الصحافي إلى مسألة مياه النيل”، مضيفا أن موقف بلاده صريح وواضح وهو “أن تستغل دول حوض النيل مياهه بطريقة منصفة وسلمية”، ويتضمن هذا المحتوى موقفا فضفاضا يصعب وضعه في خانة طرف معين، فهو أقرب إلى الحياد التام.
وكان يمكن لهذا الموقف البسيط تدارك ما تلاه من لغط عبر تقديم تفسير لأسباب الالتباس بين ما جاء في المؤتمر الصحافي بين الرئيسين وبيان المتحدث باسم الرئيس المصري واجتهادات وسائل الإعلام بشأن وضع سد النهضة في المحادثات الرسمية.
ولفتت مصادر مصرية إلى أن حديث المتحدث الصومالي لم يكن المقصود به تكذيب الرئاسة المصرية عمدا، لكنه ينطوي على رسالة موجهة إلى إثيوبيا تقول إن الرئيس الجديد يتبنى سياسة مستقلة ولا ينحاز إلى القاهرة في سد النهضة.
وشددت المصادر على أن تجاهل القاهرة للنفي غرضه عدم تضخيم الأمر ومنع الوصول إلى مستوى قد يؤدي إلى أزمة دبلوماسية مرفوضة، فموقف الصومال من سد النهضة غير مؤثر والصياغة هدفت إلى التأكيد على الثوابت التي تلتزم بها مصر، وليس ادعاء لمواقف مصطنعة على الصومال أو غيره.
وتؤكد الرواية الصومالية أن القاهرة تنظر إلى العلاقة مع مقديشو ضمن البروتوكول وربما تنسب ما تريده من تصريحات دون أن تفهم بالضبط لماذا لا يستقطب الصومال اهتماما كبيرا من مصر، فأهميته تتجاوز حصرها في نطاق بؤرة جاذبة لجماعات إرهابية تطاردها القاهرة أو الحصول على مواقف رمزية داعمة لرؤيتها لسد النهضة.
وأدى الموقع الجغرافي للصومال إلى استقطاب قوى إقليمية ودولية عديدة يسعى بعضها لتكريس نفوذ سياسي وعسكري، وكان من الأولى أن تصبح لمصر مكانة مؤثرة تفوق قضية الإرهاب التي تمنحها القاهرة جانبا كبيرا في تفاعلاتها مع الدول الأفريقية.
وتمركزت قوى مختلفة في الصومال أو بالقرب منه ووضعت لنفسها تصورات أكبر من عملية مكافحة الإرهاب، فالبلد ملتقى تقاطعات كثيرة كانت سببا في استمرار أزمته لأكثر من ثلاثة عقود، ويكفي تتبع منحنياتها لحض القاهرة على أن تضع الصومال في بؤرة اهتمامها ومنحه مرتبة متقدمة في أولوياتها على الساحة الأفريقية.
واستوعب الرئيس الصومالي الجديد أخطاء سلفه محمد عبدالله فرماجو وانحيازاته لبعض القوى الإقليمية، ويريد إحداث توازن في علاقاته الخارجية، فقد أراد من زياراته لسبع دول، بينها مصر، التأكيد على أن مصالح بلاده العليا هي التي تتحكم في رفع مستوى التعاون مع دولة دون أخرى بلا اعتبار لعواطف سياسية.
وقال نائب رئيس المجلس المصري للشؤون الأفريقية السفير صلاح حليمة إن الرئيس الصومالي المنتخب حديثا كانت له علاقات متزنة عندما تولى السلطة في الفترة بين عامي 2012 و2017، ويحاول معالجة الأخطاء التي وقع فيها فرماجو، بعد أن تسببت سياساته في زيادة نشاط حركة الشباب المتطرفة وتفاقم الصدامات الداخلية واتساع نطاق أدوار القوى الخارجية بصورة أثرت على استمرار حالة الانسداد.
وذكر أن زيارة الرئيس الصومالي للعديد من الدول هدفها تحقيق مهام أمنية، منها مكافحة الإرهاب، ومحاولة تحييد التدخلات الخارجية التي تعوق مخططه نحو إجراء مصالحات بين الأحزاب والعشائر الصومالية. ويحتاج الصومال من مصر إلى رؤية شاملة لا تحشره في أزمة سد النهضة الشائكة والبعيدة عنه، فجارته إثيوبيا يمكن أن تمثل تهديدا له إذا أوحى رئيسه بأنه متوافق مع القاهرة، الأمر الذي جعل المتحدث باسم الرئاسة الصومالية يسارع إلى النفي السابق.
وأوضحت أستاذة العلوم السياسية بكلية الدراسات الأفريقية بجامعة القاهرة هبة البشبيشي أن تبرؤ المتحدث باسم الرئاسة الصومالية “منطقي”، فهناك حالة عداء تاريخية مع إثيوبيا تدفع الأخيرة أحيانا إلى القيام باختراقات في الأراضي الصومالية، في وقت يدرك فيه الرئيس الجديد أن إمكانيات بلاده العسكرية محدودة ومفككة، وليس من مصلحته استفزاز دولة يمكن أن تصبح قواتها على مرمى حجر من العاصمة مقديشو.
وأشارت إلى أن الصومال قد يجد نفسه في مواجهة مفتوحة مع إثيوبيا بلا مبررات كافية، لأنها اعتادت التحرش به في غياب مساعدة إقليمية أو دولية تضع حدا لذلك، وثمة حسابات داخلية تجعله أكثر حرصا كي لا يبدي موقفا مؤيدا للقاهرة في أزمة سد النهضة أو يظهر كطرف مساند لوجهة النظر الإثيوبية.
وسوف يظل عدم استقطاب الصومال وتحويله إلى وضع استراتيجي متقدم في حسابات القاهرة الإقليمية من العناصر التي تقلل من فرص التأثير في معادلة التوازنات في هذه المنطقة، ويمنع حصولها على مواقف متينة في قضية سد النهضة أو غيرها من القضايا التي تدخل في صميم المصالح الحيوية للدولة المصرية.