للمرة الثانية يعود حسن شيخ محمود إلى سدة الرئاسة في مقديشو بعد عهدته الأولى بين العامين 2012 و2017، متوليا بذلك العهدة الرئاسية العاشرة في تاريخ جمهورية الصومال الفيدرالية، حيث حقق فوزا ساحقا على منافسه الرئيس المنتهية ولايته محمد عبدالله فرماجو بحصوله على 214 صوتا مقابل 110.
وبعد أدائه اليمين أمام رئيس المحكمة العليا باشي يوسف أحمد بيّن شيخ محمود أن البلاد بحاجة إلى المضي قدما لا العودة إلى الوراء، مشيرا إلى أن للدولة الصومالية قوانين يتم الرجوع إليها عند حدوث اختلاف في الرأي، مضيفا قوله إن هناك ذكريات أليمة لا يمكن نسيانها، لكن العفو هو الكفيل بتجاوزها، مشددا على التفكير في المستقبل وعدم التشبث بالماضي.
في عهدته الأولى حاول شيخ محمود تجديد الدماء في صدارة السلطة التنفيذية، وتصفير المشاكل مع دول الجوار، وإلغاء بعض القوانين المرفوضة من القبائل
وأصبح شيخ محمود أول رئيس صومالي يفوز برئاسة الجمهورية مرتين، فيما خرج الآلاف إلى الشوارع والساحات احتفالا بالمناسبة وهم يهتفون “حسن شيخ انتصر”، في إشارة إلى ثقة نسبة مهمة من الصوماليين في الرئيس انطلاقا من تجربتهم معه خلال عهدته الأولى، وكذلك من دوره السياسي المهم في قيادة المعارضة المدنية للرئيس فرماجو حيث كان في طليعة من وقفوا في وجه محاولات التمديد لولايته بطريقة غير قانونية.
وتم انتخاب شيخ محمود من قبل أعضاء البرلمان الذين تجمّعوا في مرآب طائرة محصّن داخل ما يسمى بخيمة “أفسيوني” بالقرب من مطار مقديشو الدولي، ما يكشف عن توتّر الأوضاع الأمنية والمخاوف الواسعة من إمكانية استهداف الجلسة النيابية الانتخابية سواء من قبل الجماعات الإرهابية أو من قبل الأطراف الداخلية والخارجية التي تعمل على استدامة الأزمة الأمنية بالبلاد.
بناء السلام:
أسرة شيخ محمود من الطبقة العاملة، لكن حركته ونشاطه أهّلاه ليصبح صاحب رصيد واسع داخل البلاد وخارجها
ولد شيخ محمود في مدينة جللقسي بإقليم هيران بولاية هيرشبيلي الصومالية عام 1955، وتخرج من الجامعة الوطنية في 1981 بدرجة البكالوريوس في التربية الفنية، ثم التحق بجامعة بوبال والتي تسمى جامعة بركات الله الآن في الهند وحصل منها في عام 1988 على الماجستير في نفس التخصص، وفي عام 2015 حصل على درجة الدكتوراه في الآداب تقديراً لمساهمته البارزة في تعليم الأطفال الصوماليين، كما تخرج أيضا من معهد فيرجينيا للسلام في جامعة إيسترن مينونايت بدرجة علمية في الوساطة وبناء السلام.
عاش شيخ محمود تجربة ثرية منذ أن كان مدرسا في مدرسة ثانوية للتدريب المهني، ثم تمت ترقيته إلى مدير معهد تدريب المعلمين في الجامعة الوطنية، وبعد انهيار الحكومة والحرب الأهلية، عمل مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي واليونيسف، بالإضافة إلى التعاون مع جامعة أكسفورد في ملفات تتعلق بدراسات اللاجئين ومشاريع أخرى لتعزيز السلام وإعادة الإعمار.
وعندما اندلعت الحرب الأهلية مطلع تسعينات القرن الماضي، أصبح مسؤول التعليم في اليونيسف وأعاد فتح المدارس، وأسس معهد الإدارة والتنمية الذي أصبح في ما بعد جامعة كبرى.
انضم إلى المركز الصومالي للأبحاث والاستشارات كباحث أول في السلام وإعادة الإعمار، وفي تلك الأثناء، سافر على نطاق واسع إلى مناطق البلاد للزيارة والتوسط وجمع المعلومات ليصبح مؤسسا وقائدا في حركة تختص بتحديد كيفية تعزيز المجتمع المدني وتجتمع مرة واحدة في الشهر لإيجاد حلول لأزمة البلاد.
العارف بالصومال:
ينتمي شيخ محمود إلى قبيلة الهوية واسعة الانتشار وسط وجنوب الصومال والمنطقة الصومالية والمحافظة الشمالية الشرقية التي تديرها حاليًا إثيوبيا وكينيا، وفي إقليم صومالي لاند، وتشكّل أغلبية سكان العاصمة مقديشو. وهو متحدر من أسرة من الطبقة العاملة، لكن حركته ونشاطه أهّلاه ليصبح مقاولا ناجحا إلى جانب أنه أكاديمي بارز وناشط اجتماعي برصيد واسع من العلاقات في داخل البلاد وخارجها.
بخلفية سياسية واجتماعية، أصبح أحد أهم الشخصيات الفاعلة في البلاد، وكذلك من منطلق مالي واقتصادي وخبرة إدارية، وقد تم تعيينه في عام 2008 في منصب الرئيس التنفيذي لشركة “تليكوم” التي كانت ثاني أكبر شركة اتصالات في البلاد كما شارك في تأسيس شركات خاصة أخرى في القرن الأفريقي.
في العام 2011 كان شيخ محمود في السادسة والخمسين من عمره، وقد كسب رصيدا مهما لتأمين مستقبله الشخصي والأسري، كما بات على معرفة بالواقع الاجتماعي والثقافي للبلاد، لذلك قرر أن يطرق باب العمل السياسي، حيث أسس حزب “السلام والتنمية” وتم انتخابه رئيسا له بإجماع الأعضاء لقيادة الحزب للسنوات الثلاث الأولى، ثم تم انتخابه عضوا في مجلس الشعب في أول انتخابات من نوعها منذ العام 1967، وبعد أقل من شهر انتخبه البرلمانيون الصوماليون ليكون الرئيس الثامن للبلاد.
صعد شيخ محمود إلى أعلى هرم السلطة في بلاده بسرعة فائقة، ردها البعض إلى حضوره المبهر وقدرته على الإقناع والثقة التي يحظى بها من الشارع ومن الفاعلين الأساسيين في المشهد العام، حتى أن مجلة “تايم” الأميركية صنفته في عام 2013 كواحد من أكثر 100 شخصية مؤثرة في العالم.
وصوله إلى الحكم أعطى للعالم منسوبا جديدا من الثقة في إدارة شؤون البلاد بعد عقود من الغرق في فوضى الفساد، وهو ما جعل المانحين يجمعون أكثر من ملياري دولار لدعم المسار الديمقراطي وتجاوز الوضع الاقتصادي المتأزم.
إحياء النظام
وصول شيخ محمود إلى الحكم أعطى للعالم منسوبا جديدا من الثقة في إدارة شؤون البلاد بعد عقود من الغرق في فوضى الفساد، وهو ما جعل المانحين يجمعون أكثر من ملياري دولار لدعم المسار الديمقراطي وتجاوز الوضع الاقتصادي المتأزم.
خلال سنوات عهدته الأولى، حاول شيخ محمود تجديد الدماء في صدارة السلطة التنفيذية، وتصفير المشاكل مع دول الجوار، وإلغاء بعض القوانين المرفوضة من القبائل، وحقق بعض النجاحات ومن ذلك اعتراف الولايات المتحدة بحكومة الصومال، ورفع الحظر عن استيراد الأسلحة، وفتح تحقيقات رسمية في الفساد المستشري بمؤسسات الدولة ومنها البنك المركزي، كما ساهم في إحياء النظام التعليمي في البلاد وعمل على هيكلة المؤسسات الحكومية بشكل متطور، واجتهد في الرقي بالنظام المالي والعلاقات الدبلوماسية، وحافظ على توازن في علاقات بلاده مع الخارج، وفي فبراير 2017 سلم السلطة رسميا إلى الرئيس المنتخب فرماجو الذي تم اتهامه لاحقا بالوصول إلى كرسي الرئاسة باعتماد الرشاوى من الأموال التي وفرتها له قطر.
واجه فرماجو سيلا من الانتقادات بسبب مواقفه المنحازة لمشروع الإخوان وللمحور الذي تحركه الدوحة، حتى أن زعيم حزب ودجر عبدالرحمن عبدالشكور الذي انتخب نائبا في مجلس الشعب الصومالي، وصف السياسة الخارجية الصومالية في عهد حكم فرماجو بأنها “أصبحت أداة تستخدمها دولة قطر” التي قال إنها تتعامل مع الحكومة الصومالية “كمنظمة غير حكومية في إلحاق الضرر بدول أخرى”.
ومن جانبه اعتبر مدير وكالة المخابرات الأسبق عبدالله سنبلولشة أن تحالف الرئيس فرماجو مع قطر هو سبب المشاكل التي يعاني منها الصومال، واصفا الدور القطري بأنه ترك تأثيرا خبيثا على كل جانب من الجوانب السياسية والدبلوماسية الصومالية، كما أشار في المقال نفسه إلى التعاون بين فرماجو ودولة قطر في العمل على تقويض الضوابط والتوازنات السياسية في مقديشو من خلال تهميش مجلس الشيوخ.
الرئيس المنتخب سيعمل على غلق قوسي مرحلة فرماجو، والعودة إلى خياراته خلال مرحلة حكمه السابقة، عندما عمل على أن تكون علاقات بلاده الإقليمية والدولية متوازنة وخارج تحالفات المنطقة
كان تأثير الدوحة واضحا في سياسات فرماجو ودائرة الحكم المحيطة به، ويؤكد عبدالشكور أن المال القطري كان السبب في الإطاحة برئيس مجلس الشعب السابق محمد شيخ عثمان جواري، بينما يشدد عبده إسماعيل سمتر الذي أصبح سناتورا في مجلس الشيوخ الصومالي على أن أموال قطر صنعت شخصيات متنفذة تمتلك سلطة غير قانونية لا حدود لها، توجّه وتتحكم بالرئيس المنتخب والأجهزة الحكومية، وهو ما أثّر سلبا على علاقات البلاد مع أغلب دول المنطقة.
وقد سعى فرماجو بالفعل لتقريب الشخصيات المحسوبة على قطر من دوائر القرار، ومن أبرزها فهد ياسين حاجي طاهر الذي بدأ حياته المهنية مراسلا لقناة “الجزيرة” وبلغ خلال السنوات الماضية مرتبة مستشار الأمن القومي والمدير السابق لجهاز المخابرات، وفي فبراير الماضي انتخب نائبا بالبرلمان، لكن انتخابه قوبل بالرفض من قبل مفوضية الانتخابات الفيدرالية التي اعتبرت أن العملية الانتخابية لم تتم وفقًا للوائح المنظمة، ما دفعه للجوء إلى المحكمة العليا التي رفضت الدعوى بسبب عدم الاختصاص.
ويشير المراقبون الى أن الدوحة خسرت الكثير من تأثيرها على المشهد السياسي في الصومال، حتى أن مرشحها لمنصب رئيس الدولة رئيس الوزراء السابق حسن علي خيري اكتفى بأن حصل على 48 صوتا خلال الجولة الأولى للانتخابات من داخل البرلمان، ويرون أن الرئيس الجديد المنتخب سيعمل على غلق قوسي مرحلة فرماجو، والعودة إلى خياراته خلال مرحلة حكمه السابقة عندما عمل على أن تكون علاقات بلاده الإقليمية والدولية متوازنة ومن خارج التحالفات المرتبطة بالأجندات العقائدية في المنطقة، فليس من مصلحة الصومال أن يكون رهين الأجندات القطرية التي طالما تسببت في عزلته وخسارته للكثير من الموارد المهمة.
استعادة ثقة العالم
صعود شيخ محمود السريع إلى أعلى هرم السلطة يرده البعض إلى حضوره المبهر وقدرته على الإقناع
سيكون على الرئيس شيخ محمود أن يستعيد ثقة العالم في قدرة بلاده على التصدي لمخاطر الإرهاب والعنف ولشبكات الفساد الطاغية على مراكز القرار سياسيا واقتصاديا، وعلى الخروج من مخلفات الحرب الأهلية ومن أبرزها الإفلات من العقاب وحالة الانقسام التي لا تزال تهدد مستقبل الدولة والمجتمع، مع التخطيط المنهجي لتحقيق المصالحة الوطنية الفعلية على الأرض وتجاوز الخلافات مع دول الجوار بحل جميع الملفات العالقة ولاسيما تلك المتصلة بترسيم الحدود البرية والبحرية.
ينتمي الرئيس شيخ محمود إلى التيار الليبرالي التقدمي المنفتح على التجارب العالمية، وهو ورغم تحالفاته المتشابكة مع عدد من الأطراف السياسية والاجتماعية والقوى الحزبية والقبلية، إلا أن مشروعه ينبني على خطوات عملية لتشكيل ملامح مجتمع حديث بالاعتماد على الكفاءات الوطنية والتعاون مع الدول الشقيقة والصديقة والمنظمات الإقليمية والدولية في مقارعة فلول الإرهاب وتجفيف ينابيع التطرف التي كانت تستظل بأطماع الكثير من القوى السياسية في البلاد، وبعد أدائه اليمين الدستورية قال الرئيس المنتخب إنه لن يكون هناك انتقام سياسي في المرحلة القادمة، لكن مع الدعوة إلى تجاوز سلبيات الماضي، وهو هدف يكاد يكون مشتركا بين الغالبية الساحقة من الصوماليين.
*كاتب تونسي