كتب – محمود عبدي
ما بين الاستغراب من عدم كون اللغة العربية اللسان المحكي في الصومال، وعدم معرفة كثيرين أن للصوماليين لغة تحمل اسمهم، يزداد شرح مكانة اللغة العربية في بلاد الصومال صعوبة وتعقيداً، فعلى الرغم من انتماء اللغة الصومالية– كما يفرض علماء الألسن- إلى عائلة لغوية تجتمع مع اللغة العربية في سلف قديم مشترك، إضافة إلى استعارة الصوماليين جانباً مهماً من العبارات والتركيبات من اللغة العربية، خصوصاً في ما يخص المصطلحات الدينية الإسلامية، والسلع والأدوات التي كان يستجلبها الصوماليون عبر تجارتهم مع العرب، فعند التمحيص يكون من المنصف اعتبار الصوماليين– في غالبيتهم- من ضمن غير الناطقين باللغة العربية.
الإسلام والعربية والعروبة
ضمنت العلاقات التجارية القديمة الممتدة على مدى قرون، بين ضفتَي خليج عدن تلاقحاً ثقافياً طويل المدى، نظراً للتعاون الكبير بين قدماء الصوماليين والممالك اليمنية في تداول السلع على طريق الحرير البحري، الممتد من جنوب شرقي آسيا إلى “القلزم”، لذا لم تكن اللغة العربية غريبة على السكان في القرن الأفريقي. وأسهم دخول الإسلام بوصول الصحابة في هجرتهم الشهيرة إلى الحبشة، وانتشاره عبر مدينة “زيلع” إلى الداخل الصومالي، وتطور تعليم اللغة العربية من خلال أسلوب جديد استحدثه الشيخ يوسف بن أحمد الهاشمي البغدادي “يوسف الكونين” في القرن الثالث عشر للميلاد، ما أسهم في تسريع العملية التعليمية الخاص باللغة العربية، واعتماد الحرف العربي لكتابة اللغة الصومالية، بحيث انتشرت العربية في كل البوادي والأرياف، وأصبح تداول الكتب وقراءتها من الانتشار، بحيث أصبحت مصليات الهواء الطلق في البوادي، مكتبات صغيرة، تحتوي على كوات حجرية تُحفظُ فيها المخطوطات من الأمطار والعوامل الجوية، وتبقى متاحة للمسافرين على طرق القوافل، وقرب الآبار ومناطق تجمع البدو في دروب ارتحالهم الموسمية.
كما زخر الموروث الثقافي للقبائل الصومالية، بمرويات تتحدث عن أصل عربي لكثير من القبائل الصومالية الكبرى، وهو ما جعل نسبة المنتسبين إلى أب عربي لا تقل عن 60 في المئة من الشعب الصومالي، وعلى الرغم من كثرة الأطروحات والنظريات المتداولة حول حقيقة الأصول العربية لتلك الفئات الكبيرة والمؤثرة داخل الشعب الصومالي، وظهور تبريرات تجعل الانتماء للأب العربي نتيجة للدور الكبير لعلماء وشيوخ الطرق الصوفية، ورغبة مجموعات قبلية كبيرة في التعبير عن ولائها لشيخها بالانتساب إليه، خصوصاً مع انتساب الشيخ لعشائر قرشية، هو ما أسهم إلى حد كبير في التصاق الهوية العربية وجدانياً، بضمير فئات واسعة من الصوماليين، ما شكل دافعاً كبيراً لدى الصوماليين لاتخاذ مواقف شديدة الصلابة، تجاه الحضور الغربي في بلادهم باكراً، وتحولت بلادهم إلى منطقة عمل صعبة للمشاريع الغربية ثقافياً سياسياً وعسكرياً.
اللغة العربية في خطر
مع دخول القوى الغربية إلى “القرن الأفريقي” بُعيد مؤتمر برلين (1884-1985)، واجهت اللغة العربية تحديات كبيرة نظراً لتراجع النشاط التجاري بالمجمل في منطقة غرب المحيط الهندي، وتأثرت العلاقات التجارية العربية الصومالية، ماعدا نشاط تصدير الماشية الذي بدأ في ثلاثينيات القرن التاسع عشر إلى ميناء عدن، فقد أدت الهيمنة الغربية إلى تراجع مكانة اللغة العربية في العمل التجاري من جهة، ومن ثم جاءت مساعي الدول الأوروبية لبسط هيمنتها الثقافية من خلال التشجيع على تعلم لغاتهم بتهميش الناطقين بالعربية، وحصر التوظيف في الوظائف الإدارية على الناطقين باللغات الأوروبية، وهو ما أسهم في زيادة العبء على الطبقة المثقفة الناطقة بالعربية واللغات الشرقية كالهندية والفارسية، واضطرارهم إلى تعلم اللغات الفرنسية والإيطالية والإنجليزية، في محاولة منهم للاستمرار في قيادة مجتمعاتهم بمواجهة الهيمنة السياسية الغربية، وتصاعد المخاوف من التغيير الثقافي والاجتماعي المصادم للتراث الديني للبلاد.
ومع ابتعاث كثير من أبناء القبائل الصومالية للدراسة في الغرب، أفرز الوجود الغربي في القرن الأفريقي طبقة سياسية ذات ثقافة أوروبية، كان وجودها ضرورياً لبناء دولة صومالية حديثة، وهو ما أسهم في فرض الجدل باعتماد أبجدية جديدة للغة الصومالية، ما جعل الاستمرار في استخدام الحرف العربي لكتابة اللغة الصومالية من بين اقتراحات عدة، كان منها استحداث نظم كتابة جديد، إلا أن توفر أدوات الكتابة والطباعة العاملة بالأحرف اللاتينية، في ظل افتقاد البلاد لنظيرتها العربية، هو ما فتح المجال إلى الحط من مكانة الحرف العربي، ووضعه في ذات مكانة نظم الكتابة المحلية المستحدَثة المرجو تعميمها.
كما أدى وصول الجنرال محمد سياد بري إلى السلطة في انقلاب أكتوبر (تشرين الأول) 1969، وهيمنة النخبة ذات التوجهات الاشتراكية على مفاصل السلطة، إلى تمرير استخدام الحرف اللاتيني ليكون نظام الكتابة المعتمد للغة الصومالية، وتجيير العملية التعليمية لصالح نظريات غربية، في مقابل إخراج مقررات تعليم اللغة العربية والتربية الإسلامية من قائمة المواد الضرورية للنجاح والانتقال إلى المراحل الدراسية الأعلى، وهو بالتالي ما تسبب في تهميش معلمي المواد التي مدارها اللغة العربية، مقارنة مع مدرسي المقررات المادية واللغات الأجنبية، ونفور التلاميذ والطلبة من اللغة العربية باعتبارها مجرد تضييع للوقت والجهد.
نهوض اللغة العربية
وأدى التضييق الذي شهدته اللغة العربية والضغوط التي تعرض لها دارسو العلوم الدينية، إلى انتقال كثير منهم إلى البلاد العربية، كما أسهمت الفرص الاقتصادية وانضمام البلاد إلى جامعة العربية في عام 1974، في فتح المجال أمام هجرة آلاف الصوماليين إلى دول الخليج العربي، وهو ما أسهم في ازدياد أعداد متعلمي العلوم الدينية وولادة مئات آلاف الصوماليين في تلك البلاد، لتكون اللغة العربية لغتهم الأولى وثقافتهم الرئيسة.
ومع انهيار نظام الرئيس سياد بري، عاد كثيرون ممَن كان النظام سبباً في مغادرتهم البلاد، وبدأوا في ملء الفراغ الذي خلقه تحلل النظام التعليمي الرسمي في البلاد، ومن خلال الدعم الذي قدمته الشعوب العربية للعمل الإغاثي والتعليمي، فانتشرت المدارس التي تعتمد مناهج باللغة العربية، ما أدى إلى عكس نتائج تسعة عقود من تآكل مكانة اللغة العربية بسرعة كبيرة، لتعود تلك اللغة لتصبح جزءاً من الحياة اليومية للصوماليين، وتصبح وسائل الإعلام العربية- الفضائيات تحديداً- مصدراً أساسياً من مصادر الأخبار والثقافة العامة المشتركة لدى الصوماليين.
تحديات
ويُعد الصومال دولة مستقبلة للإشعاع الثقافي العربي، وهي بالتالي تتأثر بالأوضاع والأمزجة، وما هو دارج في الأوساط الثقافية العربية، لذا فإن تراجع مكانة اللغة العربية في موطنها الأصلي، وظهور الدعوات إلى الكتابة باللهجات الدارجة، أو استبدال الحرف العربي بغيره، يمكن أن يكون له دور في هز ثقة فئات من المثقفين الصوماليين، بصوابية التمسك الشديد باللغة العربية الذي يبديه الجانب الأكبر من الصوماليين، فمن خلال النقاشات والجدل اللذين يثوران بين الفينة والأخرى، حول أهمية اللغة العربية وأولويتها، وكونها عنصراً ثابتاً في تعليم الأطفال الصوماليين، ومقدماً على اللغة الصومالية، لدى مراحلهم الأولى بدءاً من مرحلة “الروضة”.
كما سعى بعض النافذين في الوسط الثقافي، إلى خلق تناقض مصطنَع، بين التمسك بالثقافة الصومالية والتمسك بالثقافة العربية، عبر دعاوى يمكن وصفها بـ”الأفريقانية”، واستقبال أصحاب تلك المواقف الفكرية، للتمويل السخي لأنشطتهم الثقافية من منظمات ثقافية غربية وأممية، في مقابل تعثر محاولات الكاتبين باللغة العربية لمجرد طباعة ونشر كتبهم، وضعف الدور الحكومي في ضبط العملية التعليمية، مع تراجع الدعم العربي للمؤسسات التعليمية الصومالية، في مقابل تصاعد حصة الدعم الثقافي والتعليمي الغربي الموجه إليها، كل ذلك يضع علامة استفهام كبيرة حول مستقبل اللغة العربية وثقافتها في الصومال.