فورين بوليسي: هل بات تمدد أنقرة العسكري في الخارج أكبر من قدرات الجيش التركي؟
عرض – محمد منصور
طرحت المحررة في مجلة (فورين بوليسي) الأمريكية أليسون مياكيم في مقالها المنشور أمس، تساؤلات مهمة حول اتساع نطاق الانخراط العسكري التركي في الشرق الأوسط والقوقاز، وما إذا كان زمام التحكم في مدى ودرجة هذا الانخراط قد خرج من يد أنقرة، وبات اكبر من القدرات العسكرية الفعلية للجيش التركي، عددًا وعدة أم لا.
أخر فصول الانخراط العسكري التركي الخارجي كانت محطته في القوقاز، وتحديدًا في إقليم ناجورنو قره باغ، حيث خالفت أنقرة كافة القوى العالمية التي دعت إلى إيقاف أطلاق النار وبدء عملية تفاوضية بين أرمينيا وأذربيجان، وهرعت لمساعدة باكو على كافة المستويات العسكرية، ويشمل ذلك تزويد الجيش الأذربيجاني بالأسلحة المتنوعة ومجموعات متتالية من المقاتلين السوريين، وهذا ما أثار غضب حلفاء أنقرة في حلف الناتو الذين وجدوا في الدور التركي الحالي في هذه الأزمة، محاولة لتقويض أية محاولات تستهدف حلحلة هذه الأزمة وتسويتها سلميًا.
من جانب أخر، لم يكن سعي أنقرة لتوسيع نفوذها في القوقاز أمرًا مفاجئًا أو غير متوقعًا، خاصة أن مسرح هذا السعي هو إقليم يتنازع عليه من وجهة النظر العرقية كل من الأرمن والأتراك، اللذان يمتلكان أرثًا متجذرًا في التاريخ من العداوة والصراع. وعملياً إذا قرر الرئيس التركي يومًا إدخال وحدات عسكرية تركية في المعارك الجارية حاليًا في إقليم ناجورنو قره باغ، الذي يعتبره المجتمع الدولي أرضاً أذربيجانية رغم أن أغلبية سكانه من القومية الأرمنية، سيكون هذا القرار هو الأحدث في سلسلة من التشابكات الاستراتيجية التركية الممتدة من البحر الأبيض المتوسط جنوباً إلى آسيا الوسطى شمالاً.
هذه الجبهة الإقليمية الجديدة، تضاف إلى جبهات أخرى تنخرط فيها تركيا على المستوى العسكري، وهي:
الجبهة الليبية: تدعم تركيا العديد من الأطراف الليبية الموالية لها منذ اندلاع الحرب الأهلية في ليبيا عام 2014، وحاليًا تدعم بشكل أساسي حكومة الوفاق المعترف بها دوليًا والتي تتخذ من العاصمة طرابلس مقرًا لها، ولا تسيطر فعليًا سوى على الأجزاء الشمالية الغربية من البلاد، وتتواجه هذه الحكومة ومن خلفها تركيا مع وحدات الجيش الوطني الليبي التي يقودها المشير خليفة حفتر.
التورط التركي في ليبيا يرتبط بشكل وثيق بدور أنقرة في الصراع الدائر حاليًا في سوريا، ويرتبط أيضًا بالمواجهة المستعرة منذ فترة بين أنقرة من جهة ودول حوض البحر المتوسط مثل اليونان وقبرص، على خلفية التنقيب عن الغاز والبترول والخلافات حول ترسيم الحدود البحرية والمناطق الاقتصادية الحصرية. لهذا دعمت أنقرة قوات حكومة الوفاق بشكل مكثف من أجل تثبيت موطئ قدم لتركيا في هذه الجبهة، وذلك عبر مئات الأطنان من الأسلحة والذخائر التركية بجانب عشرات الطائرات المسيرة وآلاف المقاتلين السوريين، الذين نقلتهم أنقرة من الشمال السوري للقتال في ليبيا.
الجبهة السورية: رغم أن وقائع الأحداث تشير إلى أن الانخراط التركي في الصراع السوري بدأ منذ عام 2011 ودخل إلى مرحلة جديدة عام 2015، بدخول القوات التركية إلى الشمال السوري لقتال تنظيم داعش إلا أنه يمكن اعتبار هذا الانخراط امتدادًا للصراع التاريخي بين أنقرة والجماعات المسلحة الكردية، وهو صراع كان الجنوب التركي والشمال العراقي مسارح دائمة له خلال سنوات ما قبل عام 2011. هذا أتضح بصورة أكبر عام 2015 حيث تدخلت القوات التركية في سوريا ضد تنظيم داعش، ثم ركزت عملياتها على استهداف وحدات حماية الشعب الكردية رغم أن هذه الأخيرة كانت لها أدوارًا أساسية في محاربة هذا التنظيم الإرهابي، وهذا كان بمثابة تأكيد عملي على العزم التركي لمواجهة المسلحين الأكراد داخل وخارج الحدود التركية، خاصة أن أنقرة تعتبر وحدات حماية الشعب امتدادًا لحزب العمال الكردستاني، الذي يتخذ من تركيا مقرًا له وتصنفه أنقرة كمنظمة إرهابية.
الصراع بين الجانبين على الأراضي التركية بدأ عام 1984، حين بدء الجيش التركي حملة لقمع حزب العمال الكردستاني في جنوب شرق البلاد الذي دعم وساند مطالبات الأكراد حيث طالبت الأقلية الكردية، التي يبلغ تعدادها 15 مليون نسمة على مدى عقود بمزيد من الحكم الذاتي والاستقلالية الثقافية والسياسية. وعلى الرغم من توقيع الجانبين عام 2013، اتفاقية تم بموجبها إيقاف إطلاق النار الا أن هذه الاتفاقية انهارت بعد ذلك بعامين لتبدأ جولة جديدة من المعارك بين الجانبين، تشير التقديرات إلى أنها أسفرت عن مقتل 3589 كرديًا على الأقل و 1261 جنديًا تركيًا. حاليًا، تحتل تركيا مساحات كبيرة من أراضي شمال وشمال شرق سوريا، وتشن من حين لأخر هجمات على مواقع تمركز الأكراد شرقي الفرات ضمن مساعيها لإنشاء ما يسمى (المنطقة الآمنة) للحيلولة دون وصول موجات إضافية من اللاجئين إلى تركيا.
جبهة شمال قبرص: تدخلت تركيا في شمال قبرص عام 1974 وأسست هناك منذ ذلك التاريخ ما يعرف باسم (جمهورية قبرص التركية)، الغير معترف بها من جانب المجتمع الدولي الذي يعترف فقط بسيادة الأراضي القبرصية الموحدة تحت أسم (جمهورية قبرص)، (باستثناء قاعدتين عسكريتين تابعتين للجيش البريطاني)، ومازالت العاصمة القبرصية نيقوسيا مقسمة بين الشمال والجنوب حتى اليوم. حاول الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي عنان أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين حل النزاع بين تركيا وجمهورية قبرص، عبر سلسلة من محادثات السلام لكن هذه لم تؤدي هذه المحاولات في النهاية إلى أي نتيجة معتبرة.
جبهة شرق المتوسط: في الأشهر القليلة الماضية نشطت البحرية التركية في المياه الاقتصادية اليونانية المعترف بها دوليًا، وهي خطوة قامت بها أنقرة بدافع من تعطشها المتزايد للغاز الطبيعي ورغبتها في الحصول على أكبر حصة منه. هذه الخطوة وخطوات أخرى مماثلة أثارت غضب الدول الأعضاء في حلف الناتو، التي تزايدت مخاوفها من تصاعد التوتر بين أنقرة وآثينا اللذان تمتد بينهما عداوة تاريخية شديدة الوطأة.
من مباعث التحركات التركية في هذه الجبهة، ما يطلق عليه سياسة (الوطن الأزرق) التي لا تقيم وزنًا للعديد من الاتفاقيات الدولية، وتحاول فرض الرؤية التركية التي تعتبر العديد من الجزر اليونانية وأجزاء من المياه الاقتصادية لأثينا أملاكًا خاصة للجمهورية التركية. وقد تزايدت أهمية هذه المواجهة بسبب محاولات دول الاتحاد الأوروبي المستمرة، تحفيز أنقرة على منع تدفق المهاجرين غير الشرعيين عبر أراضيها باتجاه الأراضي الأوروبية والسواحل اليونانية.
قطر والعراق: أعلنت أنقرة عام 2019، الانتهاء من بناء قاعدتها العسكرية في قطر وهو ما مثل علامة فارقة في تاريخ هذه الدولة الصغيرة، التي لا تتمتع بحلفاء في الخليج خاصة وأنها تعتبر الدولة الخليجية الوحيدة في التحالف التركي في ليبيا الذي يضم أيضًا حكومة الوفاق الوطني في ليبيا، هذه القاعدة يمكن إدراجها ضمن قواعد تركية مماثلة توجد في دول أخرى، مثل قاعدة بعشيقة في كردستان العراق والقاعدة التركية في العاصمة الصومالية مقديشو.