عندما تتحد الصراعات مع تغير المناخ وبؤس السياسة يكون الجوع هو المصير، هذا ما حذرت منه اللجنة الدولية للصليب الأحمر بداية هذا الشهر بأن هذه الثلاثية “تدفع بنحو ربع سكان القارة الأفريقية نحو هوة الجوع. وأن نحو 346 مليون شخص في أفريقيا يواجهون انعدام الأمن الغذائي بصورة حادة، ما يعني أنه من المرجح أن يتعرضوا لأسوأ أزمة منذ عام 2017”.
برنامج الأغذية العالمي، التابع للأمم المتحدة، أعلن في فبراير (شباط) الماضي، أن “13 مليون شخص في جميع أنحاء منطقة القرن الأفريقي يواجهون خطر الجوع الشديد”، وقال إن “13 مليون شخص في كينيا، والصومال، وإثيوبيا، يواجهون خطر مجاعة شديدة، فيما يشهد القرن الأفريقي أسوأ جفاف منذ عقود، وأن ثلاث سنوات مرت من دون فصل أمطار فعلي، والمنطقة تسجل الظروف الأشد جفافاً منذ عام 1981”.
وحالياً تجري سلسلة من المحادثات بين الهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية (إيغاد) والدول الأعضاء، جيبوتي والسودان وجنوب السودان والصومال وكينيا وأوغندا وإثيوبيا وإريتريا، حيث بدأت أعمال المؤتمر الوزاري لدول المجموعة لمجابهة الكوارث والجفاف في 13 مايو (أيار) الحالي في نيروبي، وسبقه اجتماع على مستوى الخبراء بمشاركة جميع الدول الأعضاء.
وتشكل هذه المحادثات فرصة للتوصل إلى توافق في ما يتعلق بتحدٍّ مقيم لم يفارق القارة الأفريقية، لا سيما منطقة القرن الأفريقي، كما أنها ستحث المجتمع الدولي للتخطيط والمساعدة في مجابهة الجفاف بالإقليم، الذي يعاني آثاره المتمثلة في نقص إنتاج الغذاء.
شبه مجاعة
على مدى سنوات، ظل العلماء يحذرون العالم من أن الأرض تواجه تهديد التغير المناخي الناجم من تغيير أنماط سقوط الأمطار وهبوب العواصف، التي أثرت في الأراضي الجافة الفقيرة في قارة أفريقيا، خصوصاً منطقة القرن الأفريقي ومنطقة الساحل غرب القارة. التي تعاني بشكل دوري موجات جفاف مدمرة ومجاعات متكررة تؤدي إلى هلاك آلاف عدة من البشر، في حين يواجه الملايين خطر الجوع، الذي يهدد حياتهم.
وتكاد لا تخلو دولة في المنطقة من الدول التي تتأثر بالصراعات المسلحة من إحاطة هذا الخطر بها، ما أوصلها إلى وضع أشبه بالمجاعة. فمن الصومال ومنطقة تيغراي بشمال إثيوبيا، مروراً بدولة جنوب السودان، إلى بوركينا فاسو ومالي والنيجر ونيجيريا، تمتد الأزمات الغذائية، التي تواجهها المناطق المجاورة لها.
في عام 2017 نجحت جهود إنسانية في إبعاد الصومال عن حافة هاوية المجاعة، نتيجة لموجة جفاف دمرت المحاصيل وأهلكت الماشية. وأنقذت المساعدات التي بلغت نحو مليار دولار العديد من الأرواح، وحالت دون تكرار ما حدث أثناء موجة الجفاف في عام 2011، عندما كانت الدولة مشغولة بصراعها الداخلي، بينما قضى الجفاف على مئات الآلاف من السكان. أما الآن فيظل مصير منطقة القرن الأفريقي، بما فيها الصومال، معلقاً على أمل مساعدات عاجلة من الجهات المانحة التقليدية والجهات المحتملة الجديدة، مثل المؤسسة المالية الدولية.
دومينيك ستيلهارت، مدير عمليات اللجنة الدولية للصليب الأحمر، قال إن “الجفاف يؤثر حالياً في نحو 90 في المائة من أراضي الصومال. وفي فبراير فقط، تسبب الجفاف في نفوق 650 ألف رأس ماشية، ودمر حياة عشرات الصوماليين، الذين تمثل الماشية بالنسبة إليهم الدخل والأمان والادخار”. ولكن مع تكرار الأزمة، وتكرار استجداء وانتظار مساعدات عاجلة، ينتظر أن يجري المجتمع الدولي إصلاحات على نهج تسليم المساعدات حتى لا تدور المنطقة في حلقة عدمية من المعاناة.
وأكد جون كيري، المبعوث الرئاسي الأميركي الخاص لشؤون التغير المناخي، أن الولايات المتحدة خصصت ثلاثة تريليونات دولار لمساعدة 500 مليون شخص حول العالم للتكيف مع تداعيات التغير المناخي، خصوصاً الدول النامية.
موجات متكررة
تتعدد العوامل، التي أسهمت في تكرار موجات الجفاف المفضية إلى ظاهرة الجوع في منطقة القرن الأفريقي، ويأتي على رأسها، تأخر هطول الأمطار لثلاثة مواسم متتالية، وفي المناطق التي تشهد هطولاً أقل من المعدلات الطبيعية يزداد الصراع على المرعى، ما من شأنه زيادة المعاناة.
بينما يتمثل العامل الثاني في مواجهة العالم لارتفاع أسعار المواد الغذائية، بسبب الحرب في أوكرانيا، ما نتج منه انقطاع إمدادات المحاصيل من موسكو وكييف، وتخزين المحاصيل في بعض الدول الأخرى المنتجة المصدرة للقمح، وتلك التي تنتج لاستهلاكها المحلي.
أما العامل الثالث، فهو استمرار الحروب والنزاعات والأعمال الانتقامية المصاحبة لها، ومنها حرق القرى والمحاصيل والماشية. وكمثال لذلك نجد أن إقليم جنوب السودان قبل الانفصال كان يعتمد على المعيشة التقليدية بسبب عزلته واعتماده على النشاط الزراعي الجماعي وغزارة الأمطار الموسمية، التي تستمر لستة أشهر في العام. بعد الانفصال استمر الجنوبيون في التكيف مع ظروفهم الطبيعية، ولكن اشتداد الصراع الإثني والقبلي في العمق الجنوبي جعل إقامة القبائل في قراها شبه مستحيلة، فانتهجت التنقل إلى مناطق أخرى تاركة محاصيلها للتدمير من قبل خصومها، وعند انتقالها يتبعها القتال أيضاً باندلاع الصراع في مناطق الإقامة الجديدة المؤقتة. وهنا نجد أن عامل الحرب أسهم بشكل فعال في خلق أزمة الجفاف الأخيرة.
رسم السياسات
في كتابه “السودان 2020 تقويم المسار ورؤية المستقبل”، قال كامل إدريس، المدير العام السابق للمنظمة العالمية للملكية الفكرية (الويبو)، “ظلت الغالبية العظمى من سكان السودان حبيسة في إطار القطاع الزراعي التقليدي كرعاة ومزارعين بسطاء، يعتمدون على الأساليب التقليدية في الزراعة وتربية الثروة الحيوانية”.
وأضاف إدريس “خلال عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين كان الإنتاج الزراعي يوجه بصورة أساسية لتلبية حاجات السوق المحلية، فتمكن السودانيون من تحمل تبعات موجات الجفاف والتصحر في الأعوام 1972-1975. ولكن منذ منتصف السبعينيات ودخول البنك الدولي وصندوق النقد الدولي شريكين أساسيين في رسم سياسات الدولة الاقتصادية، تغيرت الأوضاع بسرعة، خصوصاً في القطاع الزراعي، نحو الأسوأ”.
وبعد أزمة الجفاف، التي ضربت البلاد في عام 1983، واستمرت إلى عام 1984، تم الاعتراف رسمياً بوجود حالة من المجاعة العامة في كل منطقة الحزام المطري. بعدها تفاقمت ديون السودان، وعدت البلاد غير مؤهلة للحصول على قروض أخرى، بسبب عدم قدرة النظام آنذاك على تسوية متأخراته البالغة 860 مليون دولار عام 1986.
آثار الجفاف
تزداد مشاكل الجفاف سوءاً يوماً بعد يوم، ما قد يعرض الأمن الغذائي للخطر، ويزيد التوترات الجيوسياسية. وتعد القارة الأفريقية الأكثر عرضة للجفاف، على الرغم من عدد الأنهار التي تشقها، ذلك أن الاعتماد على الزراعة المطرية يأتي في المقدمة لاتساع مساحة الأقطار الأفريقية. وقد زاد الجفاف من حدة التوترات السياسية، إذ تبين الحاجة إلى الاستفادة من مياه الأنهار، وتأثير تدفق الأنهار المشتركة أو الحد من هذا التدفق مثل بناء إثيوبيا سد النهضة في النيل الأزرق، من أجل تأمين مواردها المائية وتوليد الطاقة الكهرومائية. ولكن لأن النيل يمثل أهمية حيوية واستراتيجية لسكان السودان ومصر وإثيوبيا، إضافة إلى دول الحوض الأخرى، فإن المشروع قد يشعل فتيل الصراع في المنطقة، ما لم يتم التوافق على كيفية الاستفادة منه.
وتسبب حالات الجفاف التوترات السياسية، لأنها تكبد تكاليف اجتماعية واقتصادية عالية، وتزيد الشعور بالنقص الحاد في موارد المياه بهذه المناطق الهشة اقتصادياً وسياسياً، التي تحتاج إلى دعم المجتمع الدولي، وقد كان ينبغي أن توسع قدرة هذه البلدان على تسخير المساعدات في استثمار المياه بشكل سليم، بدلاً من وقوع كارثة الجفاف، ثم انتظار المساعدات.
من آثار الجفاف أيضاً تصاعد حالات النزوح واللجوء، فلا تكاد تخلو دولة أفريقية من حركة نزوح جماعي نحو المناطق الآمنة، وبحثاً عن الاستقرار. كما تزيد موجات الجفاف والتصحر من عبء الديون على بلدان المنطقة، بما تتطلبه من إعادة الإعمار والتأهيل في المناطق المتأثرة بهذه الكارثة الطبيعية وبتبعاتها، مثل قضايا النزوح والهجرة. أما الأثر الاجتماعي، فأزمة الجفاف تسهم في زيادة العنف وجرائم السطو.
هناك تنبؤ كبير بأن المجاعة ستتكرر بالمناطق التي حدثت فيها من قبل، ما يستلزم اتخاذ إجراءات منسقة وطويلة الأجل، وإذا كان لا يمكن تجنبها فإنه يمكن محاولة منعها من أن تصبح مجاعات. وتمر منطقة القرن الأفريقي بمرحلة ما قبل النهاية، وهو ما يصنف بأنه شبه مجاعة.
معالجة الوضع
لقد بات مفهوماً تماماً التهديد الذي يشكله الجفاف، وإذا كان هذا هو وضع سكان المنطقة المستقرين بمناطقهم، فإن اللاجئين سيكونون أكثر عرضة من غيرهم لهذه الأزمة. وعلى الرغم من قسوة الجفاف وما يترتب عليه من فظائع، فإن هذه البلدان مشغولة بأمور أخرى، مثل الصراع الإثني في إثيوبيا، والانتخابات في الصومال، وأزمة الحكم بين العسكريين والمدنيين في السودان، وغيرها، لذلك تتراجع أخبار الجفاف خلف هذه الاهتمامات، ما يؤدي إلى تجاهلها والهرب من مواجهتها حتى تفاقمها.
يمكن لمؤسسات التمويل الدولية والإقليمية والدائنين والمانحين الإسهام في معالجة هذا الوضع، بتكثيف العمل الإنساني والدعم المستدام، لتمكن دول المنطقة من تجاوز مرحلة الخطر وبناء قدراتها لمواجهة هذه الأزمات مستقبلاً.
ومن ناحية أخرى يتطلب ذلك من دول القرن الأفريقي مواصلة عمليات الإصلاح السياسي والاقتصادي والمالي والحكمة في إدارة الموارد المتاحة، وانتهاج سياسات اقتصادية ومالية تمكن من تسريع النمو الاقتصادي، ذلك أن عبء الديون يسهم إلى حد كبير في تجميد المساعدات الاقتصادية ويقلص البرامج التنموية، ويضعف المبادرات الدولية أو الاستجابة لهذه المخاطر.