إن تجربة الحركة الاسلامية في الصومال ما تزال حديثة العهد مقارنة بغيرها من البلدان، ولكنها استطاعت وبفترة زمنية وجيزة اكتساح الساحة الدعوية والسياسية وهذا لم يكن بسبب قدرتهم الفكرية ولا التنظيمية، ولكنه كان بسبب غياب المنافس الحقيقي، حيث إن وجود القبيلة المسيسة تمنع من تشكل حركات أيدلوجية في الصومال، واذا تشكلت فسرعان ما تبتلعها.
ومن المعروف أن الخطاب التعبوي للحركات الاسلامية في الصومال يمر في مرحلة الأفول، فيما عدا الالتزام الظاهري وانتشار المعاهد الشرعية، وسبب هذا الأفول يرجع إلى الانشطار الحاصل في داخل التوجهات الاسلامية منذ ظهور الفكر الجهادي، الذي سيطر العديد من المناطق الجنوبية ولاسيما بعد اندحار قوات المحاكم الاسلامية التي كانت تمثل خليطا من التوجهات المتنافرة.
الاخوة الأعداء
ورغم وجود هذا الخليط العجيب حاولت المحاكم الاسلامية أن تظهر للعالم تماسكها إلا أن نار الخلافات كانت متقدة تحت الرماد، وسرعان ما أظهر كل فريق توجهه الحقيقي، فريق في السياسة وفريق في القتال، وبدأ عصر الشبهات والشهوات، وقد تحدثنا عن شبهة حمل السلاح على الشعب المسلم بحجة اقامة الحكم الاسلامي مرات عدة، وهي شبهة معروفة تعاني منها أغلب الدول الاسلامية، ولكننا نحاول الاشارة إلى الفريق الآخر الذي اختار الاصلاح من الداخل ولكنه ضاع في الدهاليز المعتمة للدولة المعاصرة.
من اقامة الشريعة إلى تقنين الرشوة
بعد المصالحة التي تمت بين المحاكم الاسلامية والحكومة الفدرالية في جيبوتي عام ٢٠٠٨ بدأت رحلة الاسلاميين إلى السياسة تتضح أكثر، وساعدهم في ذلك الاتفاق الذي أعطاهم نصف مقاعد البرلمان، ونتج عن ذلك اختيار أول رئيس ينتمي إلى التوجهات الاسلامية المطالبة باقامة الحكم الإسلامي.
ورغم أنهم تمكنوا من استصدار البرلمان قرارا تاريخيا يؤكد كون الشريعة الاسلامية المصدر الوحيد لقوانين البلد، إلا أن رحلة المطالبة بتطبيق الشريعة توقفت عند هذا الحد وأصبح الحديث عنها همسا، بل بدأ البعض يتبرأ من انتمائه السابق للحركات فضلا عن انتشار السلوكيات المعيبة في بعض المنتمين لهذه الحركات سابقا.
ومن هنا بدأ قطار الشهوات يتقلب بهم من محطة إلى محطة حتى أصبحت سلوكيات البرلمان وأروقة السياسة ملبدة بغيوم الشهوات، بدءا من محطة الرشوة التي توصلك إلى قبة البرلمان من ثم إلى الرئاسة وانتهاء بالفساد المالي والإداري المنتشر في الوزارات، حتى أصبح الصومال في ذيل قائمة الدول الأكثر فسادا في العالم مما يعني أن حجة الإصلاح من الداخل جرفها تيار الشهوات الشخصية حتى أضحى ممن يتحدث عن الإصلاح السياسي والشريعة الإسلامية في أروقة الحكم كمن يغرد خارج السرب!.
ومع أن بعضهم ما زال يحتفظ جزءا من مظاهر التدين حيث أصبحت دعاء الافتتاح ظاهرة ملموسة في منصة البرلمان يتبارى فيها من يعرف نطقها الصحيح ومن يلحن، فضلا عن كثرة الاستدلال بالآيات والأحاديث رغم وجود كل تلك السلوكيات البعيدة عن التدين الحقيقي.
ومن المؤكد أن الانحرافات الفكرية المشار إليها ناتجة عن فشل تربوي يتحملها قادة هذه الحركات الذين ما يزالون يتهربون من فتح باب المراجعات الفكرية، فكيف يمكن أن يقتنع هذا الشاب ممن كان يفتي بالأمس القريب حرمة الدخول في البرلمان وكفر كتابة الدساتير أن يأتي اليوم مدافعا عن الحفاظ بالنظام العام من غير أن يتراجع عن فكره القديم أو يبين للناس أسباب هذا التحول العجيب!. ، أومن كان يتأبط بالبندقية ضد الحكومة الفدرالية ثم تحول بين عشية وضحاها سياسيا لا يختلف عن السياسي الصومالي التقليدي إلا أنه بامكانه أن يؤم بالمصلين في داخل المجلس.
فكل هذه التصرفات تؤكد الخلل التربوي الذي تعانيه الحركة الاسلامية في الصومال، وينذر بانتهاء دورها القيادي بعد أن فقدت جزأ مهما من رصيدها الأخلاقي؛ لذلك ينبغي عليهم اعادة النظر في المحاضن التربوية وسياسة التفريخ المهتمة بالتنافس العددي (أنا أكثر منك مالا، وأعز نفرا)، والاهتمام بالإنسان الصالح صاحب الرؤية العالمية والنظر الأممية المتعالية عن الأخلاقيات الدنيئة وعلى رأسها الرشوة والقبيلة المسيسة.
وختاما اذا ارت أن تفهم التغيرات التي حدثت في أبناء الحيل الثاني في الحركة الاسلامية في الصومالي من كلا التيارين أصحاب “الشبهات والشهوات” اقرأ رواية “حكاية وهابية”، وكتاب (السلفي المسكين)، لتدك مدى التشابه والتطابق بين هذه المكونات الفكرية وشقيقاتها في العالم العربي في البعث والأفول.
حتى ذلك التاريخ نلقاكم