الصومال اليوم

الشخصية والهوية في «خرائط» الصومالي نور الدين فارح

في رواية «خرائط» للروائي الصومالي نور الدين فارح (1945) تفاجئنا شخصية «عسكر» بتكوينها الفريد، وتعبيرها عن الهوية الصومالية، بكل أبعادها ومكوناتها العربية والإسلامية والافريقية والمحلية، وسنسعى في هذا المقال إلى التعرف عليها.

لقد ماتت الأم وتركت وليدها يحمل آثار دمائها، يصراخ في ظلام دامس. ولدى قراءتنا للحظة العثور عليه، بكل ما فيها من تفاصيل، نستشعر ألما نفسيا يجعلنا نتعاطف مع هذا الرضيع الملقى وحيدا، بجانب جثمان أمه، يضرب بيديه ورجليه في الظلام صارخا، وقد أوشك على الهلاك جوعا، وهو ما يستعيده عسكر ويذكره في ثنايا المتن: «وصفت المرأة التي عثرت عليكَ البرودةَ الشديدة لتلك الغرفة المظلمة بأنها تشبه مستودع الجثث. صرخت عند وصولها، ولم تهدأ حتى وضعتك في حوض ملأته بالماء الدافئ، ثم أطعمتك جرعا من حليب الماعز».

ولا يمكن تخيل أن تكون هناك علاقة غاية في القرب والحميمية مثل التي نشأت بين عسكر الابن غير البيولوجي للفتاة الإثيوبية «مصرا» وهذه المرأة بشخصيتها المركبة. ومن خلال تقنية «الكشف»- التي يذكرها مارتن أسلن في كتابه تشريح الدراما- نتعرف بها على الشخصيات والأحداث من خلال السرد، فلا يذكر المؤلف الضمني تعريفات جاهزة لشخصياته، أو يتدخل بالإخبار المباشر، مقدما معلومات عنها، فتلك من السبل التقليدية، بل يترك للمتلقي استنتاج سمات الشخصية وأعماقها، أي يكتشف القارئ ذلك بنفسه، الأمر يشمل أيضا المكان والزمان، وتبدلات الأحداث، مآلاتها وغير ذلك من عناصر الحكي.

فمن خلال الفعل ورد الفعل من قبل الشخصيات، تتحدد حقيقة الشخصية وتتمايز، فتقنية الكشف تبرز أعماق الشخصية من خلال: أقوال الآخرين وحواراتهم، وقد يستخدم الكاتب في بعض الأحيان الشخصية كمنظار ينظر من خلالها ويُعلِم القارئ وصفا لإحدى الشخصيات، وهناك شخصيات ناطقة بمراد المؤلف.

وهو ما نجح فيه المؤلف نور الدين فارح في روايته، فمن خلال معايشتنا للسرد، في منظور الراوي / البطل عسكر، نكتشف كلما أمعنا في قراءة المتن السردي، الكثير عن الشخصيات وسماتها وتناقضاتها، يأتي هذا الكشف بشكل فني غير إخباري، أساسه استنباط الدلالة من الأحداث والمواقف بشكل مباشر. فمنذ الصفحات الأولى للرواية، سنعيش مع عسكر منذ أن كان رضيعا، وإلى أن صار شابا يافعا، وقد ماتت أمه عند ولادته، فقامت على تربيته الفتاة الإثيوبية «مصرا» التي وفدت من بلادها ولجأت إلى عائلة عسكر تحتمي بها، وتعيش معها. ورأت أن الرضيع عسكر كان هدية لها، كي تجد مكانا للعيش الآمن والدائم في بيت العائلة، وهي التي لا مأوى لها في موطنها هذا سبب معلن، ومن الناحية النفسية، فقد أشبع الرضيع توقها الأنثوي للأمومة، فأعلنت عن تطوعها لرعاية هذا الرضيع، وقد تفجرت في قلبها مشاعر الحنو والشفقة على هذا الكائن الضعيف.

وعبر صفحات الرواية نكتشف أن عسكر سيعرف تدريجيا عن مربيته «مصرا» كل شيء، في صحوها ونومها: رائحتها، دمها، صوتها، تضاريس جسدها، تقلباتها النفسية. أفراحها وأحزانها، مغامراتها الجنسية التي تكون برضاها، أو تكون مضطرة إليها، كي تستمر في الحياة على أرض الصومال، وحتى لا تجد نفسها تتقاذفها الأيدي والبلدان، وكانت علاقاتها غير الشرعية مع قريبين يعرفهم عسكر حق المعرفة، يراهم يعلنون قيما ومبادئ وأخلاقا ويعلمونها، ثم يتسللون إلى مخدع «مصرا» ليلا فيسمع عسكر – وهو غض صغير – الهمسات والتأوهات، فلما كبر قليلا، كان يعلم ماذا تفعل «مصرا» إذا غابت عن غرفتهما، ويعرف الشخص الذي رافقها من صوته. شكل الجنس أداة لكشف ضعف «مصرا» وهي الإثيوبية الغريبة في مجتمع عشائري تقليدي، ينظر لها تارة أنها خادمة، وتارة أنها جارية هاربة.

يمضي السرد موضحا حياة عسكر الجديدة، وتطور وعيه لأزمته الوجودية وهويته السياسية، ومحاولته الفكاك من إسار «مصرا» والانحياز إلى الوطن، بالتجاور مع كتل سردية ذات طابع تنظيري حول مفهوم الهوية الصومالية، وتعقيداتها في ما يتصل بتكوينها الافريقي والعربي وماضيها مع الاستعمار.

أصبحت «مصرا» عالما كاملا أمام «عسكر» الطفل والصبي، وكما جاء في النص الروائي، فقد «كان ثمة شيء أمومي في الكون الذي أدخلتك فيه مصرا، منذ اليوم الذي قررت فيه أنها مسؤولة عنك، منذ اللحظة التي صار بإمكانها أن تناديك في الغرفة المخصصة لكليكما» بل إننا اكتشفنا شخصية مصرا من عيني عسكر الطفل والصبي والشاب، فهي المرأة التي يحتاج إليها بوصفه ذكرا، ولا نعني الاحتياج الجنسي، فهذا لم يحدث طيلة الرواية بين «عسكر» و«مصرا» على الرغم من إدراك عسكر منذ نعومة أظفاره، أن تلك المرأة التي تحتضنه وينام بجانبها في الفراش ليست أمه الحقيقية. وكما يروي: «سأعرف مع مرور الوقت أنها ليست أمي الحقيقية. ومع تقدمي في العمر ومقابلتي لمزيد من هؤلاء الناس، قررت أن أكف عن مخاطبة «مصرا» بأي شيء حتى نكون وحدنا في الغرفة». فقد استغرب أفراد عائلته مناداته بلفظ الأم لمصرا.

إنه في احتياج لوجود الأنثى لتعوضه عن الأم، ويجد لديها الحنو والصوت الدافئ، لقد تجاوزت «مصرا» في علاقتها بـ«عسكر» الحدود المعتادة في علاقة الأم بابنها لتصبح: رحما، ووطنا، وحبيبة، وسكنا، ونافذة على العالم من حوله. إنها تفضي إليه، ويفضي إليها، تصارحه بكل ما في نفسها، وبما يمكن أن يستوعبه في سنّه الصغير، وهو يحكي لها ويسألها عن كل ما يعنّ له من أمور ومستجدات. تستعيد «مصرا» في «عسكر» ذكرى طفلها الذي مات وهو لم يتجاوز العام ونصف العام، فتعوض «عسكر» كل الحنان الذي ادخرته في قلبها وهي ثكلى. وهكذا أضحت «مصرا» – لعسكر – حدود العالم منتهاه، ونشأت لغة بين هذين الكائنين قوامها حركة الجسد ورائحته، ونظرات العيون والصمت والهمسات، وتعلم أيضا لغتها الأمهرية. تلك المرأة في عينيه هي سيدة العوالم المختلطة، غير أنها من منظور المحيط لم تكن إلا امرأة من الشّمال، أو مجرد خادمة فقط. كما أنها ملاذه عندما تعنّ في خاطره استفهامات، فحين سألها عن الموت وخروج الروح، يجتاحها الحزن ولا تقدم إجابة، ربما لأن معرفة الموت يجب أن تختبر عبر أفق المشاهدة، واقعية، تتكئ على ذاكرة الحرب، كما سيشهدها الطفل لاحقا. وكما جاء في النص الروائي: «قالت: الروح هي ما يتحرك في داخل الإنسان، وهي تكف عن الحركة حين يموت. وخاب ظني من إجابتها». إجابة بسيطة لعقل طفولي بسيط، ولكنها لم تشف غليله، فسؤال الموت حاضر في ذهنه، منذ أن حُكيَ له عن أمه التي ماتت في ولادته، فظن أنه سبب لوفاتها، أو أنها كانت سببا في وهبه الحياة وتخليصه سريعا من جسدها الواهن، قبل أن تسلم الروح لبارئها.

على صعيد آخر، فإن شخصية «عسكر» الفكرية تتشكل من خلال القراءة وحواراته مع أقاربه، حيث يدخل عسكر في حوار مع خاله «هلال» فيخبره الخال بأن هناك أسماء عامة للدول، غير أن دولا كالاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، تدعم الأسماء العامة على حساب الأسماء المحددة، كما أن الحكومات تلجأ للتعميم حين تواجه نزعات انفصالية، ونتيجة لهذا، فقد تشتت مفهوم الصومالي إلى صومالي بريطاني، وصومالي كيني، وصومالي فرنسي، وصومالي إيطالي.

هنا صوت المؤلف الضمني، يتدخل بقوة على لسان الخال، الذي أعطى كتبا ذات حداثة فكرية لعسكر، وحدثه عن أزمة الاستعمار نحو الصومال، وكيف قسمه إلى مقاطعات، فلم يعد صومالا واحدا، معروفا بانتمائه، وإنما صوماليات متعددة، تحمل كل مقاطعة منها نسبا إلى الدولة المستعمرة له، تشتتت الأرض وتشتت الشعب، وظلت الهوية واحدة، يتوارثها الأبناء من حكايات أجدادهم.

لقد أحضر عسكر خرائط الصومال الكبير، واهتم بحرب التحرير التي يشنّها شعبه ضد إثيوبيا، ونشأ صراع في نفسه مفاده الاختيار بين الدراسة الأكاديمية، أو حماسه الوطني، والالتحاق بالجبهة من أجل القتال في سبيل قضيته.

وهكذا، يمضي السرد موضحا حياة عسكر الجديدة، وتطور وعيه لأزمته الوجودية وهويته السياسية، ومحاولته الفكاك من إسار «مصرا» والانحياز إلى الوطن، بالتجاور مع كتل سردية ذات طابع تنظيري حول مفهوم الهوية الصومالية، وتعقيداتها في ما يتصل بتكوينها الافريقي والعربي وماضيها مع الاستعمار. وهو ما أكده الخال «هلال» الذي يرى أن الكلمة المكتوبة أو المبادئ المكتوبة هي التي تنتصر في التاريخ، فكل ما هو شفاهي/ دعائي، لاسيما عند اشتداد صراع الهوية والحدود لا يعوّل عليه. والمقصود بالمكتوب هنا هو التاريخ المدون الحقيقي، وليست المرويات الشفاهية، التاريخ الذي ينحاز إلى هوية الصومال المسجلة منذ قدم التاريخ، في وثائق وبرديات وآثار، لا يمكن لمجرد ادعاءات من دولة مجاورة أن تمحوها.

٭ كاتب مصري

Exit mobile version