الدراما من أهم الأدوات السحرية في مواجهة جماعات العنف والتطرف لأسباب عدة، أولها أنها تدخل كل بيت وتؤثر في قلوب المشاهد ووجدانه بسهولة ويسر، وهذا يشمل كل المشاهدين. وثانيهما أن الدراما هي اللغة السهلة واليسيرة على الفهم والمحببة إلى قلوب عشاقها، ومن هنا يمكن أن نقول إن تأثير الدراما في النّاس يفوق تأثير مئات الأطنان من الخطب السياسية.
فإذا أردت أن تغير واقعاً سياسياً، فعليك بالدراما، فأنت تستطيع أن تحرك مجتمعات من مكانها بمشهد درامي أو سينمائي واحد، كما يمكن أن تضبط إيقاع المجتمعات وتنظّم حركتها وتكشف عما يعتريها من تحديات بحلقة من مسلسل درامي؛ الدراما بمثابة الذاكرة الحيّة للمجتمعات والتي تأبى أن تنكسر أو تشيخ.
هناك دول غزت دولاً أخرى بالدراما، كانت الدبابات والصواريخ والقذائف في مرحلة تالية، وهناك دول اختطفت دولاً أخرى ببعض البرامج، وقد يكون بعضها برامج تهتم بالمطبخ ومأكولاته، فباتت هذه الدول أسيرة عادات الدولة الغازية وتقاليدها، وهنا الغزو ثقافي وفكري.
الدراما إحدى الأدوات المهمة في تفكيك الأفكار المتطرفة، ومن خلالها تستطيع أن تكشف مخططات الأعداء تجاهك، سواء كانوا أعداء الداخل أم الخارج!
الدراما جزء من المواجهة الفكرية التي تُعلي من دور الثقافة والفنون، وكل منهما يمثل القوة الناعمة في تغيير الواقع والتأثير في المتلقي، بطريقة قوية ومؤثرة وسريعة في الوقت نفسه. مجتمعاتنا العربية تحتاج كثيراً إلى الدراما في معالجة الكثير من القضايا، شرط أن يتم الإنفاق على هذه الدراما وأن يكتبها صناعها الحقيقيون بلا تحفظ أو مزايدة، فكلما كان المشهد صادقاً وكانت الشخصية التي تؤدي الدور حقيقية، ترك ذلك تأثيراً في المشاهد.
المشاهد في حاجة إلى الدراما، وهو يتمتع بقدر كبير من الذكاء، ولذلك لا بد من أن يكون صنّاع العمل على القدر نفسه من الذكاء الذي يتمتع به المتلقي؛ بعض كتّابنا بذلوا مجهوداً في الكتابة ولكنهم لم يكونوا مقنعين للمشاهد، ربما لأنهم غير مدركين أو ليسوا كفوئين للكتابة في موضوعات معقده قد يكون بعضها مرتبطاً بالإرهاب والتطرف.
هناك خيط رفيع لا بد من أن تلتقطه عين المتلقي في الدراما التي تواجه الإرهاب، هذه العين التي تركز على درجة اللون وأصالتها، وبالتالي لا بد للكاتب من أن يكون مؤهلاً للكتابة في الموضوعات التي تتعرض لقضايا مثل الإرهاب والتطرف وتنظيمات الإسلام السياسي، وأن يستعين بمن يساعده في فهم الحالة التي يكتب عنها، وهذا ليس عيباً، حتى يستطيع أن يخرج بنص قوي. ما ينطبق على الكاتب ينطبق على المخرج ومجموعة العمل، أي تهاون لن يؤدي إلى النتيجة التي نريدها وتترك أثراً في المشاهد.
الدراما الوطنية ليست اختراعاً عربياً؛ فكل دول العالم تمجد انتصاراتها، وتستخدم الدراما في طرح قضاياها المجتمعية والفكرية، وتحاول أن تغير واقع النّاس ومن ثم المجتمع إلى الأفضل، وبالتالي لا بد من أن تكون هناك خطة مدروسة لذلك، يكون من أول أهدافها تفكيك الحالة الإرهابية، ولا مانع من أن تحمل رسائل أخرى، ولكن التيمة الأساسية لمجموع الأعمال الفنية، سواء الدراما أم السينما، لا بد من أن يكون مساره الحقيقي تفكيك هذه الحالة.
كلما نجحت الدراما في الوصول إلى الصورة الواقعية لقادة العنف والإرهاب، وعرضت أفكارهم الحقيقية، كانت الدراما أكثر تأثيراً في المتلقي، الذي يحتاج إلى فهم هؤلاء المتطرفين والتعرف إلى أفكارهم السوداء. في كثير من الأحيان ننغمس في تصوير مشاهد متكررة عما يحفظة المتلقي، وقد نستغرق في مشاهد حفظها المشاهد عن ظهر قلب وتكررت في عشرات الأعمال، نجاح العمل يتوقف على قدرة المشاركين فيه على تجسيد الشخصيات بعد كتابتها بصورة جيدة تكون أقرب إلى الواقع.
هنا أقصد ألا يكون تركيز المخرج فقط على تصوير الإرهابي صاحب حاجب كثيف ونظرات حادة؛ صحيح هذه بعض ملامح الإرهابيين، ولكن ليس شرطاً في الإرهابي أن يكون كذلك، بعض الإرهابيين خريجو مدارس أجنبية ويجيدون عدداً من اللغات الأجنبية وسكنوا الأحياء الراقية في بلدانهم، وقد يكون بعضهم وسيم الوجه حسن المظهر، وهنا لا بد من التركيز على الصفات الجوهرية التي تميز هذه الشخصيات أولاً ثم الصفات الشكلية.
قدمت الشاشة العربية عدداً من الأعمال الفنية المعبرة عما نتحدث عنه، أعمالاً قوية ولكننا لا نزال ننتظر الأقوى والأكثر تأثيراً، مع تنوع الأعمال، بحيث تخرج من طور الدراما إلى السينما والمسرح. تنويع الأعمال الفنية يساعد في الوصول إلى المتلقي بطريقة سريعة، لا بد من أن تصاحب هذه الأعمال رؤية من النقاد الفنيين، حتى نضمن جودة أعلى في ما يتم إنتاجة في ما بعد.
من أهم الأعمال الفنية الوطنية التي تدخل في باب الروائع، مسلسل “رأفت الهجان”؛ هذا المسلسل يجسد إحدى بطولات جهاز المخابرات العامة المصرية، العمل كان متميزاً على مستوى السيناريو والحوار والقصة وعلى مستوى الإخراج والتمثيل، وكان أبطال العمل الفني على قدر التجسيد الواقعي للشخصيات، لذا أتى العمل مقنعاً لكل من يشاهده، وبالتالي ترك بصمة لا يمكن أن نتجاهلها في عقل المشاهد العربي في كل مكان.
تابعت مع الملايين غيري أهم مسلسلين يقدمان على الشاشة في مصر، ويعبران عن الحالة التي نتحدث عنها في المقالة، وهما الجزء الثالث من مسلسل “الاختيار” و”العائدون”، صحيح أن كلا المسلسلين اقتربا من الواقع، سواء عبر المشاهد التمثيلية أم عبر الحوار بين أبطال العمل، ولكن بدا لي أننا لا نزال في حاجة إلى مزيد من الإنتاج الفني، بخاصة أن القضايا المطروحة في السياق كثيرة، وفي الوقت نفسه لتلبية نهم المتلقي الذي يقبل على مثل هذا النوع من الإنتاج.
مسلسل “العائدون” نجح في إظهار دور أجهزة الأمن في مواجهة التنظيمات المتطرفة، وبخاصة “داعش”، ولكنه لم يقترب كثيراً من أفكار التنظيم وبالتالي تفكيكها، صحيح أنه كان يعبر عن وحشية هذه الأفكار عبر بعض المشاهد، ولكنها لم تأخذ الحيز الأكبر، فالهدف هو تفكيك الحالة الإرهابية. صحيح أن أجهزة الأمن فعلت ذلك على أرض الواقع ويلمسه النّاس بأنفسهم، وبالتالي هم يحتاجون أكثر لتفكيك الأفكار، وهذا جزء من دور الفن والدراما وما ينبغي أن تقوم به.
فرق كبير بين أن نصنع صورة ذهنية وأن نفكك هذه الصورة؛ المشاهد ليس في حاجة إلى من يقول له إن “داعش” تنظيم مجرم، ولكنه يحتاج إلى من يعرض أفكاره أو الجزء الخفي في هذه الأفكار، وتفكيكها عبر مشاهد متداخلة يفرضها السياق الدرامي. نريد لهذه المسلسلات أن تترك أثراً في المتطرفين أنفسهم إذا أعطوا آذانهم وعيونهم للشاشة، فضلاً عن عقولهم ليستوعبوا ما يقدم لهم، وألا يقتصر دورها على المتلقي العادي فقط.
نجح الجزء الثالث من مسلسل “الاختيار” كما نجح الجزءان السابقان، وربما تكون ردود الفعل شاهدة على ذلك، قد يكون الكاتب والمؤلف غير موفقين في بعض المشاهد أو الرؤية الإخراجية لبعضها؛ المبالغة في عرض بعض المشاهد قللت من مصداقيتها.
نضرب مثالاً لما نريد قوله: إذا كنت أمام تجسيد شخصية متطرفة فأنت لست في حاجة إلى نقل هذه الشخصية على الشاشة بمبالغة، حتى ولو كانت هذه الشخصية ذات كاريزما، وعلينا أن نتذكر أن العمل درامي وليس دراما ساخرة، المتلقي يجلس أمام الشاشة حتى يسمع ويشاهد الصورة كاملة بشخوصها، وبالتالي من الخطأ أن نكون أوصياء عليه بمشاهد لو حذفناها من العمل لن تؤثر في قيمته الفنية.
كان المؤلف والمخرج مضطرين للاختصار في حوادث كثيرة حتى يخرجا بالفكرة كاملة في ثلاثين حلقة، رغم أن ثمة حوادثَ كثيرة مهمة مرا عليها مرور الكرام، مقابل المط في مشاهد أخرى، ولذلك من المهم إنتاج أشكال فنية أخرى بجوار “الاختيار” بالقوة نفسها وتستكمل دور مكافحة الإرهاب والتطرف.
- نقلا عن “النهار العربي”