الصومال اليوم

هل يأفل نجم تنظيم “القاعدة” في اليمن؟

كتب/ عبد الرزاق الجمل

بعدما سجّل حضوراً طاغياً خلال السنوات التي سبقت الحرب السعودية على اليمن، تراجع نشاط تنظيم “القاعدة” بشكل كبير، كما تراجع الاهتمام الغربي بملفه، على رغم أنه أكثر أفرع التنظيم خطورة، وفق تصنيف وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA) في العام 2010. ومع أن ظروف الحرب توفر كلّ أسباب انتعاش مثل هذه التنظيمات وازدهارها، إلا أن حرب اليمن بدت استثناء في هذا الجانب، حيث تراجع نشاط التنظيم العملياتي بشكل متدرّج منذ العام 2015.


قبل الحرب
قبل العام 2015، وتحديداً في العامين 2014 و2015، كان التنظيم قد نفّذ أخطر العمليات منذ تأسيسه، وأهمّها اقتحام مقرّات عدد من المناطق العسكرية في أكثر من محافظة يمنية، واقتحام مقرّ وزارة الدفاع في العاصمة صنعاء. تلك العمليات جاءت بعد انسحابه من محافظة أبين وعدد من المدن في محافظتَي شبوة والبيضاء، والتي كان سيطر عليها خلال العامين 2011 و2012 إبّان أحداث ما عُرف بـ”الربيع العربي”.
وأتت سيطرة “التنظيم” على المناطق المذكورة بينما كانت الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا تستعدّان لإنشاء ودعم وحدات يمنية خاصة بـ”مكافحة الإرهاب” في خمس محافظات نشط فيها التنظيم بشكل كبير خلال العامين 2009 و2010، وهو المشروع الذي لم يرَ النور، بسبب الظروف التي عاشها البلد خلال الاحتجاجات المطالِبة برحيل الرئيس اليمني السابق، علي عبد الله صالح، مطلع العام 2011.
هذا التصاعد المستمرّ في عمليات “القاعدة” منذ العام 2009، وهو العام الذي اندمج فيه فرعا اليمن والسعودية تحت مسمّى “تنظيم قاعدة الجهاد في جزيرة العرب”، أثار تساؤلات حول التراجع الذي شهدته عملياته ابتداء من العام 2015، ويمكن إرجاع ذلك إلى عدة أسباب:

1ـ تفاؤل بعهد سلمان
أواخر العام 2014، اخترق التنظيم التحصينات الأمنية السعودية على الحدود مع محافظة حضرموت، جنوب شرقي البلاد، ونفذ عمليات جريئة داخل مدينة شرورة. سبقت ذلك بيانات وإصدارات تُهدّد بالانتقام للسجينات المحسوبات على التنظيمات في السجون السعودية، وتلاه بيان يتوعّد بالمزيد.
غير أن عمليات شرورة كانت آخر ما نفذه التنظيم داخل الأراضي السعودية، على رغم أنه لم يطرأ أيّ جديد على وضع السجينات، وعلى رغم قدرته على القيام بعمليات مماثلة.
وفي مؤشر على استبشاره بعهد سعودي جديد، وافق التنظيم على إطلاق سراح نائب القنصل السعودي، عبد الله الخالدي، مقابل فدية مالية كبيرة جداً، بعدما تخلّى عن شرط الإفراج عن السجينات، والذي ظل متمسّكاً به طوال ثلاثة أعوام، وكان الدافعَ الرئيس لاختطاف نائب القنصل. وأُطلق سراح الخالدي بعد شهر من تسلُّم الملك سلمان مقاليد الحكم في السعودية، ولم يكن التنظيم حينها في ضائقة مالية تجبره على الرضوخ لظروفه على حساب الشرط الرئيس في عملية التفاوض حول نائب القنصل. غير أن التنظيم، وبحسب مصادر مقربة منه، كان متفائلاً بمرحلة سلمان، لانطباع خاص لديه حول موقف الملك الجديد من الإسلاميين، مقارنة بسلفه الملك عبد الله. وعلى ما يبدو، ساهم اندلاع الحرب على اليمن في ترسيخ هذا الاعتقاد لدى التنظيم، إذ إنها جاءت بعدما تَصدّر “القاعدة” ما سمّاها “معركة الدفاع عن أهل السنة” إثر دخول حركة “أنصار الله” إلى العاصمة صنعاء أواخر العام 2014.

لعلّ أخطر ما واجهه “القاعدة” أخيراً هو الخلافات الداخلية
بعد انطلاق الحرب، وجد التنظيم نفسه جزءاً من المعركة ضدّ “أنصار الله”، والتي أصبحت رئيسة بالنسبة إليه، بعد سقوط نظامَي صالح وعبد ربه منصور هادي في صنعاء، وتوصّله إلى قناعة بتحقّق ما كان قد تنبّأ به في إصدارات سابقة من وجود رغبة غربية في “تمكين” “أنصار الله” من السلطة في اليمن. على أن ذلك لم يكن يعني وجود معارك ثانوية أو أعداء مؤجّلين بالنسبة إليه؛ فمَن كانوا خصوماً بالأمس تحوّلوا إلى رفقاء سلاح يجمعهم هدف واحد، وإن اختلفت دوافعه. لأجل هذا، كان استهداف القوات التابعة للرئيس المنتهية ولايته، عبد ربه منصور هادي، إحدى نقاط الخلاف بين “الدولة الإسلامية” و “القاعدة” في مدينة عدن عام 2016، حيث اعتبره الأخير عملاً يتعارض مع “السياسة الشرعية التي تقتضي تركيز الجهود على محاربة الحوثيين”.
حماس “القاعدة” لهذه المعركة جعله يدفع بعدد كبير من مسلحيه إلى الجبهات ابتداءً من العام 2016. وبحسب القائد الميداني السابق، جلال بلعيدي المرقشي، شارك التنظيم في 11 جبهة قتال ضدّ “أنصار الله”، وهو ما أكده أيضاً زعيمه السابق، قاسم الريمي، المعروف بـ”أبو هريرة الصنعاني”. غير أن تلك المشاركة سهّلت من عملية اختراق “القاعدة”، وإدارة عملية أمنية فاعلة ضدّه بعد ذلك.

2 ـ تصفية المؤثرين
مَثّلت السياسة الجديدة لـ”القاعدة” فرصة بالنسبة إلى السعودية، لتوسيع دائرة اختراق التنظيم، والوصول إلى قاعدته الصلبة التي لم يكن من السهل اختراقها في وقت سابق، مع استمرار الاستفادة من مقاتليه في بعض الجبهات. منذ العام 2015، بدأت قيادات “القاعدة” الكبيرة تتساقط بغارات جوية لطائرات أميركية من دون طيار، على رغم انهيار منظومة أجهزة الأمن والمخابرات في اليمن، بما يعنيه ذلك من غياب للتنسيق مع الجانب الأميركي، بسبب الحرب. بين العامين 2015 و2019، قُتل معظم قادة التنظيم الميدانيين العسكريين والدعويين والإعلاميين، أمثال ناصر الوحيشي، وإبراهيم الربيش، وحارث النظاري، ونصر الآنسي، وأبو حفص المصري، وجلال بالعيدي المرقشي، ومأمون حاتم، وغالب القعيطي، وقاسم الريمي، والعشرات من قيادات الصف الثاني والثالث، إضافة إلى مئات المسلحين.
كانت السعودية في أمسّ الحاجة إلى معلومات عن تحرّكات قيادات التنظيم المهمة خلال تلك المرحلة، لكسب الموقف الغربي، والأميركي على وجه التحديد، من حربها في اليمن، بعدما تعالت الأصوات المحذرة من استغلال التنظيمات الإرهابية للحرب لإعادة ترتيب صفوفها وتوسيع دائرة نفوذها.
وبالنظر إلى أن الطائرات الأميركية المسيَّرة تتحرك بناءً على معلومات يقدّمها عملاء على الأرض، ومن داخل التنظيم تحديداً، يمكن القول إن كلّ المعلومات المتعلّقة بالقادة الذين تمّت تصفيتهم كانت سعودية بامتياز، وهو ما أكدته شبكة المخبرين التي أطاح بها التنظيم أخيراً، إذ أقرّوا جميعاً بأن المخابرات السعودية تقف وراء تجنيدهم، وفق ما جاء في الإصدار المرئي “هدم الجاسوسية” الصادر عن مؤسسة “الملاحم” قبل أكثر من عام. وقد بدا واضحاً تأثير غياب أولئك القادة على إدارة التنظيم لشؤونه، وعلى عملية استقطاب مقاتلين جدد، وحتى على إدارة الخلاف المستجدّ مع تنظيم “الدولة الإسلامية”.

3 ـ انشقاق وخلاف ومعارك
إلى ما قبل العام 2013، كان “القاعدة” في اليمن أقرب إلى “دولة العراق الإسلامية” منه إلى تنظيمه الأمّ في أفغانستان وباكستان، وقد حاول استلهام تجربته الأمنية والعسكرية والدعائية بحذافيرها. بعد سيطرة “دولة العراق” على مساحات شاسعة من الأراضي العراقية والسورية، وإدارتها تحت مسمى “تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام”، كانت كل التوقعات ترشِّـح قاعدة اليمن كأوّل المبايعين. عزَّز تلك التوقعات موقف التنظيم في اليمن من الخلافات بين تنظيم “الدولة” و “جبهة النصرة” في سوريا، حين أصدر بياناً بعنوان “رسائل إلى الفصائل المجاهدة في الشام” حذّر فيه من التصعيد العسكري، في اعتراض غير مباشر على المهلة التي أعطتها “النصرة” لـ”الدولة” للانسحاب من حلب أو مواجهة الحرب. تضاف إلى ذلك تصريحات القيادي في “قاعدة اليمن”، مأمون عبد الحميد حاتم، والتي جاهرت بمناصرة تنظيم “الدولة” وأعطت إيحاءات بقرب مبايعته، من دون اعتراض من القيادات العليا في بادئ الأمر.
غير أن فرع “قاعدة اليمن” شرع في تهيئة عناصره لموقف آخر، بعدما كانت مهيّأة لسماع إعلان البيعة لـ”أبو بكر البغدادي”. وقد ساعدته في ذلك الحدّةُ التي انتهجها تنظيم “الدولة” في إدارة خلافه مع “القاعدة”، والتي ظهرت بوضوح في كلمات ناطقه الرسمي “أبو محمد العدناني”، خصوصاً كلمة “عذراً أمير القاعدة” التي هاجم فيها أنور الظواهري، وهو ما اعتُبر إساءة وعدم احترام لـ”أهل السبق في الجهاد”. وعلى رغم التهيئة المكثفة التي استمرّت أشهراً، وتخلّي قيادات مهمة عن جزء كبير من احتياطاتها الأمنية للاختلاط بالمقاتلين بغرض التأثير عليهم، إلا أن إعلان عدم شرعية “الخلافة” دفع مجموعة لا بأس بها إلى الانشقاق، وإعلان البيعة لـ”البغدادي”.
الخلاف الذي بدأ سريعاً بعد ذلك، بين “القاعدة” والمنشقّين الذين شكلوا النواة الأولى لـ”الدولة” في اليمن، أخذ في التطور حتى وصل إلى الصدام المسلّح، كحاله في سوريا. المواجهات بين التنظيمين، والتي امتدّت من العام 2017 إلى العام 2020، في مناطق مديرية ولد ربيع في محافظة البيضاء، استنزفت الطرفين بشرياً ومادياً بشكل غير مسبوق، وسهّلت من مهمة طرف ثالث داخل المحافظة. في أواخر شهر آب/ أغسطس من العام 2020، شنّت “أنصار الله” هجوماً على التنظيمين المنهكَين في المديرية، وتمكّنت من القضاء على تنظيم “الدولة” بشكل كلّي، وطرد عناصر “القاعدة” إلى مديريات أخرى في المحافظة.

4 ـ خلافات داخلية (انشقاق ثانٍ)
لعلّ أخطر ما واجهه “القاعدة” أخيراً هو الخلافات الداخلية، على خلفية الإجراءات الأمنية الخاصة بالتعامل مع الأعضاء والقادة المشكوك في علاقتهم بأجهزة مخابرات محلية ودولية، حيث رفضت مجموعة كبيرة، على رأسها القيادي البارز “أبو عمر النهدي”، بعض تلك الإجراءات، وقرّرت، في وقت لاحق، اعتزال التنظيم. المجموعة قالت، في بيان لها، إن قيادات التنظيم توسّعت في الشك في هذا الجانب، ونتج من هذه السياسة سجن أبرياء كُثر بتهمة الجاسوسية، مشيرة إلى أن المتهمين، الذين أُفرج عن عدد كبير منهم بعد عام من الاحتجاز، تعرّضوا لمعاملة وحشية خلال التحقيق معهم؛ بغرض انتزاع اعترافات.
وفي تصرّف يؤكد فشله في إدارة خلافاته الداخلية، أصدر “القاعدة”، في تموز/ يوليو من العام 2020، بياناً داخلياً اتهم فيه مجموعة النهدي بالدفاع عن الخونة، لتتّسع الهوة أكثر بينه وبين المجموعة التي طالبت برفع القضية إلى أيمن الظواهري، معتبرة كلّ قادة التنظيم في اليمن خصوماً. وبدا واضحاً، من خلال لغة البيانين، أن الخلاف بين التنظيم والمنشقين الجدد عنه آخذ في التصاعد، ومن غير المستبعد أن يتطوّر إلى صدام مسلح مستقبلاً، كما حدث مع تنظيم “الدولة”، خصوصاً في ظلّ التقارب المكاني بينهما، بعد انحسار تواجد التنظيم في محافظة البيضاء منذ أعوام.
الخلاف الأخير، وبغض النظر عن تطوّره إلى صدام مسلح من عدمه، يعقِّد من وضع التنظيم المعقّد أصلاً، ويهدّد وجوده بشكل جادّ.

تخبّط وتيه
يشير كلّ ما تقدم إلى أن فرع “القاعدة” في اليمن، أو ما تبقى منه، يعيش حالة غير مسبوقة من الضعف والتخبّط والتيه، من المتوقع أن تنعكس سلباً على معنويات مقاتليه، الذين لم يعد يحول بين كثير منهم وبين الاعتزال سوى الخوف من المصير الذي ينتظرهم في مناطقهم أو بلدانهم إن قرروا العودة إليها، وفق مصادر مقرّبة من التنظيم.

*نقلا عن موقع الجريدة اللبناني

Exit mobile version