الصومال اليوم

الكتب العشرة المؤسسة للعنف.. المصطلحات الأربعة في القرآن للمودودي (١)

مقدمة

 ثمة حالة من الجدل عرفتها مجتمعات عديدة بين النص الحركي المتشدد وبين السياق الاجتماعي والسياسي الذي يُطرح فيه، وهو جدل عادة ما يخلق مناخاً مواتياً يستلهمه فاعلون اجتماعيون وسياسيون للاتجاه نحو العنف والتطرف.

تعرف “أصوات” أن كل نص متطرف يقود إلى العنف إنما يحتاج إلى سياق اجتماعي/ سياسي داخلي أو خارجي لكي يتحول إلى بندقية ورصاصة وتفجير إرهابي مفخخ .

ولكنها تعرف أيضاً أن هذا النص المشحون بالعواطف موجود دائما  لاختطاف العقول والقلوب في اتجاه الدم منتهزا فرصة أول سياق اجتماعي مواتي.  

ولهذا فإنه دون القيام  بحصر شامل لأهم مصادر هذا النص الواحد/ المتعدد، المعتمدة من الجماعات المتشددة، ودونما تقديم عمل نقدي شامل لهذا الفكر من وجهة نظر علم السياسة ومن خلال الخبرة التاريخية للديناميات الداخلية- لهذه الجماعات،  بعبارة أخرى: بدون تفكيك هذا النص الجاهز باستمرار للاستخدام من قبل متطرفين من أول النظام الخاص للإخوان المسلمين مرورا بالتكفير والهجرة وانتهاءً بداعش فان تغيير السياق الاجتماعي لوحده سيفشل في وقف التطرف بزعم الجهاد.

إن قراءة النصوص المؤسسة للتشدد وإنتاج العنف والتطرف ونقدها وطرح السياقات التي أنتجتها والظروف التي أحاطت بها، من شأنه أن يقدم هذه النصوص وقد نُزعت عنها هالات التقديس والمكانة التي تجعل بعض الشباب يأخدون أفكارها مأخذ التسليم والقبول وكأنها – ومن كتبها – تعلو على النقد  والتفكيك  والمراجعة.

إن المساعي الجادة لإعادة  الوجه الحقيقي للإسلام  الذي يحرم القتل والإرهاب والفساد في الأرض؛ يستلزم حصر هذه الكتب وتسميتها باسمها  وتقديم تشريح موضوعي لأفكارها الخطيرة؛ وبالتالي فعندما يذهب شاب  في المستقبل إلى كتاب من هذه الكتب العشرة سيذهب إليه وهو يعرف أنه لا يقرأ  كتابا عادياً في الفقه أو الفكر الإسلامي، سيذهب إليه وهو مسلح بنقد منهجي يكشف حقيقته وانحراف أفكاره عن مقاصد الإسلام الكبرى، باختصار  يذهب إليه وهو يعلم أنه جزء من خلية عنقودية من الكتب راكمت بعضها بعضا وزاد كل محدث فيها على ما سبقه من الكتب مزيداً من التشدد والمفاصلة، ومزيداً من التوحش في ممارسة العنف .

لهذا كله تحمست “أصوات” لهذا الجهد الفكري للباحث المرموق في العلوم السياسية وشؤون الجماعات الإسلامية  الدكتور كمال حبيب ـوهو من أخبر الناس في هذا الحقل المعرفي – لاختيار أخطر عشرة كتب مؤسسة للتشدد وعرض أفكارها بأمانة ثم نقدها بأمانة، وذلك عبرسياق زمني يبدأ بالكتاب المؤسس الأول ثم الثاني الذي أخذ عنه وعمق أفكاره وزادها حدة وشراسة وهكذا دواليك..

نبدأ هنا بكتاب “المصطلحات الأربعة في القرآن لأبي الأعلى المودودي” الذي وضع الأساس النظري لأفكار الحاكمية والجاهلية والتكفير منذ ٨٠ عاما. ونقلها عنه وسار عليها وعمقها وأعطاها سياقاً عاطفياً ولغوياً متماسكاً بالعربية منظر جماعة الإخوان المسلمين سيد قطب في كتابه “معالم على الطريق” الذي يكاد أن يكون النسخة العربية الأكثر إحكاما من كتاب المودودي، ثم تلتها كتب أخرى.

ألّف أبو الأعلى المودودي هذا الكتيب عام 1360ه -1941م وهي السنة التي تأسست فيها الجماعة الإسلامية في الهند، وتم نشر فصوله تباعاً قبل أن تُجمع في كتاب في مجلة ” ترجمان القرآن ” الشهرية التي أسسها المودودي عام 1932، وطُبع الكتاب أربع  طبعات بالأردية قبل أن يُترجم إلى العربية في طبعة خامسة عام 1955.

في مقدمته للكتاب يقول المودودي:

ومع أني قد حاولت الإلمام بمفهوم تلك المصطلحات في مقالات عديدة ،غير إن ما كتبته لا يكفي لدرء الأخطاء التي تسربت للأذهان، والظاهر أن رأيي الشخصي لا يمكن أن يقنع الذين لا يرون رأيي ولا يوافقونني عليه، فأردت في هذه الرسالة أن أبين المعاني الكاملة الشاملة لهذه المصطلحات الأربعة وسأنتاول أولا كلمة (الإله) ثم (الرب ) ثم (العبادة ) ثم ( الدين ) .

يكتب المودودي رسالته في ظل الاحتلال البريطاني للهند وفي سياق أغلبية هندوسية هادرة تتسم علاقتها بالأقلية المسلمة بالتوتر والسعي للهيمنة، كما أن المسلمين في الهند من منظوره يتبنون الإسلام التقليدي المفعم بالروح الصوفية التي تبدو للمودودي عائقا أمام فهم صحيح للدين، ومن ثم فهو يقدم ما يعتبره فهماً جديداً للدين من منظور إحيائي مقاطع مع التقاليد من ناحية ويقترح منهجاً انقلابياً يدعو المسلمين لاتباعه من أجل إقامة ما اعتبره الجوهر الصحيح للدين، وهو إقامة الحكومة الإسلامية وتحقيق حاكمية الله في الأرض عبر جهد دنيوي لا يتوقف من أجل إرساء نظام إسلامي يحقق معني إقامة الدين ونصرته وتطبيقه نموذجاً منظوراً في الواقع والحياة.

اعتبر منتقدو المودودي الذين أزعجهم طريقة فهمه الجديدة للدين بتركيزه علي فكرة الحاكمية واعتبار أن العلاقة بين العبد وربه هي علاقة قائمة علي مفهوم السلطة والسيادة بشكل أساسي، ومن ثم نزع كل سلطة عما عدا الله، واعتبارها شركاً، وهو ما أعاد العلاقات والارتباطات في تركيب النسق الديني الإسلامي بحيث أصبحت فكرة السلطة السياسية والحاكمية هي المفهوم الأصلي الذي تبدو معه بقية أمور الدين من الصلاة والصيام والزكاة والحج والدعاء والصدقة مجرد وسائل لتحقيق هذا الهدف الأسمى وهو تحقيق حاكمية الله في الأرض وإقامة الحكومة الإلهية وفق تعبيره .

أطروحة المودودي: الجاهليون يفهمون والمسلمون جاهلون!

الكلمات الأربعة عند المودودي هي أساس المصطلح القرآني وقوامه، ومن أراد أن يدرس القرآن ويسبر غور معانيه أن يتفهم المعاني الصحيحة لكل من هذه الكلمات الأربع ويتلقي مفهومها الكامل الشامل، فإذا كان الإنسان لا يعرف معني ما الإله والرب والعبادة والدين فالقرآن سيعود في نظره كما مهملا لا يفهم من معانيه شيئا، فلا يقدر أن يعرف حقيقة التوحيد أو يتفطن إلى ماهية الشرك، ولا يستطيع أن يخص عبادته بالله أو يخلص دينه له .

وإذا كان مفهوم تلك المصطلحات غامضاً في ذهن الرجل ومعرفته بمعانيها ناقصة فلا شك أنه يلتبس عليه كل ماجاء في القرآن، وتبقي عقيدته  وأعماله كلها ناقصة مع كونه مؤمناً بالقرآن، فإنه لن ينفك يلهج بكلمة لا إله إلا الله ويتخذ مع ذلك آلهة متعددة من دون الله، ولن يبرح أن يعلن أن لا رب إلا الله ثم يكون مطيعا  لأرباب من دون الله في واقع الأمر، إنه يجهر بكل صدق وإخلاص بأنه لا يعبد إلا الله ويكون مع ذلك عاكفا علي عبادة آلهة كثيرة من دون الله.

ولا شك أنه لا يدعو أحدا غير الله تعالي ولا يسميه بالإله أو الرب بلسانه لكن تكون له آلهة كثيرة وأرباب متعددة من حيث المعاني التي وضعت لها هاتان الكلمتان، والمسكين لا يشعر أصلاً أنه قد أشرك بالله آلهة وأرباباً أخري.

ويقوم بناء المودودي الفكري كله على فرضية لا دليل عليها ألا وهي:  أن القرآن لما نزل في العرب كان كل امرئ منهم يعرف مامعني (الإله) و(الرب)، وكانت كلمتا ( العبادة) و(الدين) شائعتين في لغتهم، ولكنه في القرون التي تلت ذلك جعلت المعاني الأصلية الصحيحة  تتبدل لجميع تلك الكلمات حتي أخذت تضيق عما كانت تتسع له وتحيط به من قبل، فالذين وُلدوا في المجتمع الإسلامي ونشأوا فيه لم يكن قد بقي لهم من معاني تلك الكلمات ما كان شائعاً في المجتمع الجاهلي وقت نزول القرآن، وتعذر علي الناس إدراك الغرض الحقيقي والمقصد الجوهري من دعوة القرآن ، ففهموا معني (الإله ) ترك عبادة الأصنام والأوثان وهم لا يعلمون أنهم لا يزالون متشبثين بكل ما يسعه ويحيط به مفهوم ( الإله ) فاتخذوا غير الله إلها،  وفهموا معني (الرب ) بمعني المربي والواقع أن أكثرهم قد أذعن لربوبيه غير الله، وفهموا معني الطاغوت أنه الشيطان والوثن وهم لا يزالون متمسكين بأذيال الطواغيت الأخرى، ومثل ذلك في معني (الدين ) وهو انتحال المرء ما يسمونه ( الديانة الإسلامية) ، وألا يبقي في ملة الهنادك أو اليهود أو النصارى ، ومن هنا يزعم كل من هو معدود من أهل الديانة الإسلامية أنه قد أخلص دينه لله ، والحق أن أغلبيتهم لم يخلصوا دينهم لله من حيث المعاني الواسعة لكلمة (الدين) .

الألوهية والسلطة والربوبية السياسية:

أصل الألوهية وجوهرها تنحصر عند المودودي في السلطة سواء بمعنى اعتقاد هيمنتهاعلي قوانين الطبيعة أو الطاعة لأمرها والإذعان لإرشادها ، ومما يقتضيه توحد السلطة العليا أن تكون ضروب الحكم والأمر راجعة إلى مسيطر قاهر واحد، وألا ينتقل جزء من الحكم إلى غيره، ويبقى الحكم  والتشريع والأمر بيده، ومن الخطأ أن يكون هناك حاكم مستقل بنفسه أو آمر مستبد بحكمه أو شارع مطلق اليد في تشريعه، والحكم والسلطة لا يقبل شئ منها التجزئة والتقسيم البتة، فالذي يعتقد أن أمراً كائناً من دون الله مما يجب طاعته والإذعان له بغير سلطان من عند الله فإنه يأتي من الشرك مثل الذي يدعو غير الله  ويسأله، فالألوهية تشتمل على معاني الحكم والملك، والرب الذين تتخذهم الأمم والطوائف هداتها ومرشديها على الإطلاق فتذعن لأمرهم وتتبع شرعهم وقانونهم وتؤمن بما يحلون ويحرمون بغير أن يكون الله قد أنزل به من سلطان، وقوم نوح جاء كفرهم من ناحية أنهم لم يكونوا يعتقدون أن الله له الحكم والسلطة القاهرة في أمور الأخلاق والاجتماع والمدنية والسياسة وسائر شئون الحياة ، وكذلك قوم ثمود ولوط  وفرعون كان يدعي الألوهية السياسية بمعني طاعة قانونه وشريعته، وشرك النصارى هو جعل الربوبية السياسية والمدنية للإنسان، واستمدوا مبادئ المدنية والاجتماع والأخلاق والسياسة وأحكامها جميعا من بني آدم مستغنين عن السلطان المنزل من عند الله، ومشركو العرب الذين أُرسل إليهم النبي جعلوا مع الله شركاء في الألوهية والربوبية من حيث كانوا يسلمون بحقهم في التشريع لهم ما يشاءون من النظم والقوانين لشئونهم المدنية والاجتماعية وأمورهم الخلقية والدينية، فالقرآن يجعل الربوبية مترادفة مع الحاكمية والملكية ( Sovereignty) ،ويصف الرب بأنه الحاكم المطلق لهذا الكون ومالكه.

ويشرح (الطاغوت) بأنه كل دولة أو سلطة أو إمامة أو قيادة تبغي على الله  وتتمرد ثم تنفذ حكمها في أرضه وتحمل عباده على طاعتها بالإكراه أو بالإغراء أو بالتعليم الفاسد، فاستسلام المرء لتلك السلطة وتعبده لها وطاعته إياها عبادة ولا شك للطاغوت .

ويشرح كلمة الدين بمعنى الحاكمية والسلطة العليا والطاعة والإذعان لتلك الحاكمية والسلطة والنظام الفكري والعملي المتكون تحت سلطان تلك الحاكمية والمكافأة التي تكافئها السلطة العليا على اتّباع ذلك النظام والإخلاص له .

ومعنى الإخلاص لله ألا يسلم المرء لأحد من دون الله بالحاكمية والحكم والأمر، والمراد من الدين القانون والحدود والشرع والطريقة والنظام الفكري والعملي الذي يتقيد به الإنسان، فإن كانت السلطة في النظم والقوانين سلطة لله فهو في دين الله؛ وأما إن كانت سلطة ملك من الملوك فالمرء في دين الملك، وموجز القول إن من يتخذ سنداً أعلى وحكما يتبع طريقه فلا شك أنه يدين بدينه .

الانتقادات للمودودي والكتاب:

ألف أبو الحسن الندوي كتابا في الرد على المودودي بعنوان ” التفسير السياسي للإسلام “1398ه – 1978 م”  وعرضه على المودودي قبل أن يموت عام 1979، وتُرجم إلى العربية في نفس العام..

1- يقول في كتابه ذلك ” هب المودودي يمارس ما نستطيع تسميته بالصياغة الجديدة للفكر الإسلامي ونعني بذلك كتابه ” المصطلحات الأربعة في القرآن الكريم ” الذي فسر فيه تلك المصطلحات تفسيراً سياسياً محضاً  يدور  حول حاكمية الإله وسلطان الرب ويحصرعلاقة العبد بربه في تأسيس الحكم الإسلامي وإقامة الحكومة الإلهية فحسب .

2- ينبه إلى تجرؤ المودودي على القول بأن القرآن ظل ملتبساً على الأمة بأسرها أربعة عشر قرنا دون فهم حقيقة المصطلحات القرآنية الأربعة حتى جاء هو فقط ورفع اللثام عنها! وهو ما يشكك في صلاحية الأمة  الإسلامية وفي قدرة الكتاب على الإبانة والإفادة وهو ما يفتح الباب واسعا لتأويله ويلغز الحقائق الدينية ويجعلها مستعصية على الفهم .

3- يشير إلى طريقة كتابته العاطفية والخطابية بعيدا عن المنهج العلمي العقلاني، والنظر إلى التاريخ الإسلامي بمنظارأسود ويصفه بأنه تكتيك وخطة استراتيجية متكررة عند نوع من المفكرين يريدون أن يشيدوا بناءهم على أنقاض التاريخ  والفكر الإسلامي، و يعتقدون أن الناس لا يقدرون ما يقومون به من تحقيق واجتهاد مالم يثيروا اولا  الشبهات في الأذهان حول ذلك التراث التاريخي الهائل ، وأفراد الجماعة الإسلامية الذين يقتصرون على دراسة ما يكتبه المودودي – في استنتاج أبو الحسن الندوي – أصبحوا قوما يأسوا من تاريخ المسلمين وماضيهم ومآثر اسلافهم العملية والفكرية بعد القرون الثلاثة الأولى وظنوا أن فكرة الإسلام الكامل المنسق لم يظهرها وينشأها إلا المودودي و الجماعة الإسلامية التي أسسها.

4- ينتقد ما يعتبره المودودي أن العلاقة الأساسية بين العبد وربه هي صلة المحكوم  بالحاكم، وصلة الرعيه والملك،وأن صفة السلطة العليا والحاكمية المطلقة هي الأصل من بين جميع أسماء الله الحسنى، وكأن السلطة هي أساس دعوة الأنبياء والمرسلين وغاية نزول الكتب والصحف السماوية، بيد أن ذلك جزء صغير بالنسبة إلو صفات الله العظمي وذاته وصلته بعباده وصلة عباده بنفسه، فصلة العبد بالمعبود والخالق بالمخلوق هي أشمل وأوسع وأعمق وأدق بكثير وكثير من صلة الحاكم بالمحكوم والسلطان بالرعية والآمر بالمأمور .

5- أولوية الإشراك في الحكم وأهميته تكبر في نفوس من يخاطبهم المودودي بالتركيز على الطاعة السياسية، والخضوع لسلطان أحد والإذعان لحاكميته وتتضاءل عندهم شناعة الإشراك في العبادة باعتبارها جاهلية بدائية قديمه لا تستحق عناء صرف الجهد لمقاومتها وبيان بشاعتها .

6- إذا كان أصل الألوهية هو السلطة وأن الربوبية مرادفة للحاكمية فتصبح العبادة التي هي وظيفة العبد وحده الطاعة والانقياد والولاء والوفاء (Loyalty)،وقد أخذت الفكرة المركزية للربوبية والألوهية وأخص خصائصهما السلطة  ومفهومها الوحيد كل مأخذ من ذهنه حتى ضعف شأن العبادات وأعمالهما ومظاهرها وشعائرها التي شرعتها الشريعة ودعا إليهاالدين وأحبها النبي محمد صلي الله عليه وسلم  حبا يفوق الوصف، وجاءت عشرات الآيات القرآنية والأحاديث ترغب فيها وتشيد بذكرها وفضائلها، وبدت له الشعائر التعبدية في درجة ثانوية والتوغل والانهماك فيها تعبيراً عن الجهل وعنوانا على الانحطاط حتي بدت كتابات المودودي وكأنها تستخف بتلك العبادات المشروعة .

7- الاقتصار على هذا التفسير السياسي وحده للدين سيجعل علاقة العبد بربه محدودة جافة رسمية فارغة من الكيفيات الداخلية التي مطلوب من المؤمن التكيف بها، ولاسيما لو تم التركيز على أن دعوة الأنبياء  وغاية تعاليمهم ومنتهى أعمالهم هو إحداث التغيير في هذه الحياة الدنيا المحدودة، والقيام بالانقلاب الصالح وتأسيس الحياة البشرية على الأسس الصحيحة، والتركيز علي هذه الناحية بشدة سيجعل التصور عن عالم الغيب والفلاح الأخروي والرضا الرباني والحب الإلهي يتضاءل،  ويحيد سعي الركب عن جادة الإيمان والغيب والحنين إلى الآخرة وطلب رضا الله  والتفاني في حبه تلك الجادة التي رسمها الأنبياء للوصول إلي درب طلب الحكم والغلبة والعزة .

8- انتقد المودودي  كذلك من قبل وحيد الدين خان في كتاب أسماه ” خطأ في التفسير ” وطبع في الهند عام 1962 وله طبعة ثانية عام 1987 ثم طبعته العربية عام 1992،  وكان وحيد الدين خان أحد القادة الكبار في الجماعة الإسلامية التي يقودها المودودي وتمثل مدرسته الفكرية وجرت بينه وبين المودودي وقادة الجماعة مراسلات حول خطأ المودودي في تفسيره لمعنى الدين وخاصة في كتابه المصطلحات الأربعة، انتهت بعجز المودودي وقادة الجماعة عن الرد عليه فخرج من الجماعة الإسلامية وقال: القصد هو البيان الصحيح لتفسير الدين، وهو نوع من التحدي وهذا الكتاب رد على هذا التحدي فما ألف في مقدمة المصطلحات الأربعة يعلن صراحة أن السلف لم يفهموا الدين فهماً صحيحاً وأنه لم تقم في التاريخ الإسلامي كله أية حركة حقيقية لتجديد الدين وإن خلاصة تفسير المودودي للدين هو بيان عدم الثقة في تصور السلف عن الدين، وخطأ المودودي كبير ذلك أنه لم يوفق في وضع مختلف أجزاء الدين في مكانها الصحيح، وجداني يقول إن الدين قد جُرح  بتفسير المودودي وهذا يكفيني للقيام بالإيضاح والرد .

9- يجادل حسن حنفي في نقاشه لفكرة الحاكمية عند المودودي في أنها ترفض حاكمية البشر وضرورة الثورة عليها وكأنها عصيان لأمر إلهي، وتتمثل حاكمية البشر في ثلاثة نظم العلمانية والقومية والديموقراطية، وهي النظم التي سيطرت علي الحياة في الغرب، وهي نظم ترفض الحاكمية لله وتجعل الفرد خاضعا لشهواته ورغباته والمجتمع خاضعا لأهوائه ومصالحه، وفي غياب حاكمية الله لا يوجد مكان إلا للشيطان الذي يبشر بالإلحاد والعنف، وينتهي للقول إن هذه الدعوة لحاكمية الله ورفض حاكمية البشرهي التي تدفع الجماعات الدينية المتطهرة إلى إقامة مجتمع مغلق داخل المجتمع الكبير وتجعل هدفها إقامة الدولة الإسلامية، وشق عصا الطاعة علي النظم القائمة ، ورفض الطاعة لمن يحكم بغير ما أنزل الله وتحريم الصلاة في المساجد والخدمة في القوات المسلحة والعمل في وظائف الحكومة.

10- وصلت أفكار المودودي إلى مصر عام 1955 مع ترجمة كتابه إلي العربية وهذه السنة أعتقد أنها حاسمة في ترك تأثير هذه الأفكار بقوة على مؤلفات سيد قطب حيث كان صديقا للمودودي وتأثر بأفكاره بقوة إلى درجة أنه يكرر نفس عباراته في تفسيره للظلال، ويبسط أفكاره ويتبناها في كتابه الأشهر ” معالم في الطريق “، وفي كتابه ” دعاة لا قضاة ” رد المرشد الثاني لجماعة الإخوان على أفكار المودودي في كتابه المصطلحات الأربعة وأظهر حقيقة تبني  أفكاره في المصطلحات الأربعة على تيار في الإخوان وصلوا إلى حد تكفير الناس وعدم التسليم بإسلامهم بسبب موقفهم من النظام السياسي وبسبب عدم علمهم بمقتضي المصطلحات الأربعة كما ذهب المودودي .

11- سيد قطب هو الجسر الذي نقل أفكار المودودي إلى الإخوان الذين آمنوا بأفكاره وذهبوا يكفرون المسلمين، وهو من طور مفهوم المودودي عن  الحاكمية السياسية ليصبح تعبيرا عن الجاهلية المعاصرة سواء في النظم السياسية العربية والإسلامية أو النظم السياسية في العالم كله، وهو ما سيضع الإسلام في مواجهة العالم عبر الأممية الجهادية ذات الطابع السلفي التي ستظهر بعد ذلك بعدة عقود .

خاتمة:

محاولة المودودي تغيير  فهم الدين إلى مفهوم انقلابي  عبر مفهوم الحاكمية السياسية جعله يبدو مؤسسا لبناء جديد لقضايا الدين تتناقض جذريا عن تلك التي عرفها المسلمون منذ بعثة النبي، بل إنها تتناقض- وهذا هو الأخطر- عن تلك التي طرحها النبي نفسه وأرادها الله سبحانه من الدين..

فالدين علاقة روحية بالأساس بين العبد وربه تجمع بين المحبة والخشية والتفاعل الحر المستقل المفتوح عبر الدعاء رجاء تحقيق عبودية الله باستلهام رضاها لدخول الجنة، ومن ثم فإن الصلاة والخشوع فيها والدعاء وتحقيق الاقتراب فيها حين السجود هي أسس الدين، وتتجلى أنوار هذه العلاقة بين العبد وربه في المحيط الذي يعيشه المسلم.

تحويل المودودي فكرة الحاكمية السياسية على أنها المركز الجديد لفهم الدين يجعل من العبادات أدوات لتحقيق تلك الحاكمية فتصير الصلاة جزءً من مسار لمشروع سياسي  ذات طابع دنيوي تعبر عن الانضباط والانخراط في صفوف الجماعة والتنظيم الذي سيحقق في النهاية ذلك المشروع السياسي، مستخدماً من أجل ذلك كل الأدوات الممكنة  بما فيها العنف والتضحيات، وفي الاستغراق للعمل من أجل هذا المشروع بشكل لا يتوانى فيه ،  فإن روحانية الدين ووظيفة الصلاة والزكاة والتوحيد تتراجع لأجل هدف يبدو واحدا هو تحقيق مشروع الجماعة السياسي وهو الدولة الإسلامية.

Exit mobile version