كتب – محمد عبد الكريم أحمد
يتزايد، منذ مطلع العام الجاري، الحضور الصيني في القرن الأفريقي، على نحو يتّسق مع ما تتبنّاه بكين، في العلن، من سياسة «انفتاح» على الدول المتقدّمة والنامية على السواء، «على أساسٍ من المساواة والكسب المتبادل»، كما تقول، وهو ما يُتوقّع أن يستمرّ تصاعده استجابة للتحدّيات السياسية والاقتصادية الدولية الراهنة.
إثيوبيا: بوّابة الصين الكبرى
توفّر إثيوبيا فرصة حقيقية أمام الاستثمارات الصينية، مع ملاحظة وصول حجم التبادل التجاري بين البلدين في عام 2019 إلى نحو 2.63 بليون دولار، وحلول الصين شريكاً تجارياً رئيساً لإثيوبيا طوال العقد الفائت على الأقلّ، فضلاً عن كون الأخيرة سوقاً كبيرة تتميّز بتدنّي تكلفة التصنيع فيها بشكل لافت، وتُجاور دولتَين من أهمّ الدول التي توفّر للصين احتياجاتها من البترول: السودان وجنوب السودان.
وتجاوزت المقاربة الصينية تجاه إثيوبيا حدودها التقليدية (غلبة البعد الاقتصادي) منذ مطلع كانون الأول 2021، بزيارة وزير الخارجية الصيني، وانغ يي، لأديس أبابا، ومقابلته رئيس الوزراء، آبي أحمد، فيما كان يواجه الأخير ضغوطاً داخلية وغربية غير مسبوقة. ولذا عُدّت الزيارة جرعة دعم للنظام الإثيوبي «ضدّ أيّ تدخّل في شؤون إثيوبيا الداخلية» (في سابقة نادرة أفريقياً).
وفي مقابل التقارب الوثيق مع الصين، أوضح امتناع إثيوبيا عن التصويت بشأن الأزمة الأوكرانية في الأمم المتحدة في 2 آذار، واكتفاؤها «بدعوة روسيا وأوكرانيا إلى ضبط النفس والامتناع عن العنف»، ميل نظام آبي أحمد إلى استثمار «الفرصة الدولية السانحة» على أكثر من مسار، أبرزها تمتين الصلات الاقتصادية والسياسية والعسكرية مع الصين، وإرساء مكانة إثيوبيا كبوّابة كبيرة لبكين إلى أفريقيا.
وتسارعت خطوات التعاون بالفعل بين الجانبَين، منتصف آذار، بعد ساعات من زيارة المبعوث الصيني الخاص للقرن الأفريقي، شيويه بينغ، أديس أبابا، حيث عقد رضوان حسين، وزير الدولة للشؤون الخارجية الإثيوبية، ودينغ لي، مساعد وزير خارجية الصين، مشاورات عبر الهاتف (16 آذار)، تناولت سبل تقوية «اتفاق الشراكة التعاوني الاستراتيجي الشامل»، وطلب الأوّل فيها من الأخير موافقة الصين على مقترحات إثيوبيا لترجمة «مجالات التعاون التسعة» التي سبق أن اقترحها الرئيس الصيني خلال «منتدى تعاون الصين – أفريقيا» في داكار (تشرين الثاني 2021)، كما حثّ المسؤولون الإثيوبيون الصين على «تشجيع حكومة السودان على تسوية نزاعها الحدودي مع إثيوبيا ودّياً، وحثّ دولتَي المصب (نهر النيل) على مواصلة التفاوض تحت رعاية الاتحاد الأفريقي»، مع تقديرهم اقتراح بكين دعم آديس أبابا في استضافة «مؤتمر سلام» على المستوى الإقليمي.
كذلك، امتدّت الجهود الدبلوماسية الصينية إلى مستوى «ولاياتي»، حيث التقى وفد صيني بقيادة السفير الصيني في إثيوبيا، زهاو زهيوان، حاكم إقليم أمهرا، يلكال كيفالي، وتناولا أنشطة التنمية في الإقليم، فيما طلب الأخير من الحكومة الصينية لعب «دورها في أنشطة إعادة البناء بهدف تقوية الصداقة القائمة والشراكة التنموية بين إثيوبيا والصين».
إريتريا: التلاعب بالتناقضات
شكّلت إريتريا محطّة هامّة في الدبلوماسية الصينية في أفريقيا بشكل عام، وفي القرن الأفريقي خاصة، بعدما تمكّن نظام أسياس أفورقي (الذي تلقّى تدريباً عسكرياً في الصين عقب انضمامه إلى «جبهة التحرير الإريترية» في عام 1966، ويُعتبر من أبرز معتنقي أفكار ماو تسي تونغ بين القادة الأفارقة حتى الوقت الراهن) من تجاوز أزمات بنيوية عديدة بفضل قدرته على استغلال تناقضات السياسة الدولية، ولعب أدوار متنوّعة لصالح أطراف إقليمية متضادّة.
وقد ألمح مراقبون كثر إلى أن تصويت أسمرا الأخير ضدّ إدانة موسكو وفق قرار الأمم المتحدة، كان في الأساس لموازنة أيّ انتقادات غربية تطاولها على خلفية تورّطها في أحداث إقليم تيجراي الإثيوبي، بالتعاون مع آبي أحمد.
وأعلنت الصين، مطلع العام الجاري (خلال زيارة وانغ يي لأسمرا)، معارضتها العقوبات الأميركية على إريتريا في عام 2021، في موقف أبرز الأهمية الاستراتيجية التي توليها الصين لإريتريا المجاورة لجيبوتي، حيث مقرّ القاعدة الصينية العسكرية الوحيدة في الخارج.
كما تملك الصين استثمارات في إريتريا، كان أبرزها أخيراً بدء «هيئة شنغهاي للتعاون الاقتصادي والتكنولوجي الخارجي» (SFECO) بتشييد طريق طوله 500 كم يربط بين ميناءَي مصوع وعصب الإريتريَّيْن، في ترجمة سريعة لمخرجات مذكّرة التفاهم التي وقّعها البلدان في تشرين الثاني 2021.
في مواجهة «أرض الصومال»
جرت محادثات مهمة بين بكين ومقديشو نهاية شباط الفائت، انطلقت في الأساس من التخوّف المشترك إزاء «نموّ الصلات بين تايوان وإقليم أرض الصومال»، والتي وصفها وزير خارجية الصين بـ«المُهدِّدة لسيادة واستقلال وسلامة أراضي الصين والصومال معاً».
ووعد موسى علي، وزير خارجية الصومال، نظيره الصيني خلال المحادثات، بالعمل على مواجهة نموّ علاقة الجزيرة مع الإقليم، الذي أقام مكاتب تمثيل مع تايبيه في عام 2020 (إلى جانب مكاتب مماثلة في جيبوتي والإمارات وإثيوبيا وكينيا والسويد وبريطانيا والولايات المتحدة)، مؤكداً أن بلاده ستُواصل تعاونها الاستراتيجي والعملي مع الصين. وتعهّدت، بكين، من جانبها، بالمساهمة في إعادة بناء البنية الأساسية في الصومال، وتعزيز «مبادرة الحزام والطريق»، ومناقشة «مشروعات تحسين الأحوال المعيشية في الأقاليم الأكثر أماناً» وفقاً لبيان الخارجية الصينية.
لكنّ مراقبين تحدّثوا عن احتمال جنوح بكين إلى التفاوض منفردةً مع «أرض الصومال»، ووعده ببدائل لإنهاء العلاقة مع تايوان.
وكان رئيس إقليم «أرض الصومال»، موسى بيهي، أجرى سلسلة زيارات مكوكية، اختتمها في واشنطن منتصف آذار الجاري، حيث عقد محادثات مع مسؤولين أميركيين، توازياً مع بروز تحذيرات أميركية من نموّ نفوذ الصين في القرن الأفريقي، ودعوات إلى إدارة جو بايدن لـ«تعزيز الانخراط الدبلوماسي مع أرض الصومال».
ولربّما كانت هذه الزيارة أحد دوافع تحرّك الصين وإعلانها (17 آذار) تقديم حزمة مساعدات غذائية طارئة للصومال، لمساعدته في التعامل مع موجة الجفاف الحادّ التي تضرب القرن الأفريقي.
والجدير ذكره، هنا، أن حجم صادرات الصين للصومال بلغ في عام 2019، 732 مليون دولار، لتأتي في قمّة شركاء البلد الأفريقي التجاريين بعد الإمارات مباشرة وقبل الهند، كما ثمّة مساعدة صينية للصومال في مجالات مختلفة، بينها العسكري، بناءً على الاتفاق على القيام بعمليات حرس حدود مشتركة في البحر الأحمر (تموز 2020)
خاتمة
تكشف المقاربة الصينية الجديدة في القرن الأفريقي عن إرهاصات انخراط عملي في عمليات التكامل الاقتصادي في الإقليم، ونزوع إلى اضطلاع بأدوار سياسية وعسكرية أكبر في خليج عدن والبحر الأحمر عبر آليات التعاون الثنائي مع دول القرن (تحديداً جيبوتي وإريتريا والصومال)، وفي العديد من ملفّات الأزمات الداخلية والإقليمية مثل تلك العالقة بين إثيوبيا ومصر والسودان حول سدّ النهضة.
وتدلّ الخطوات الصينية الحثيثة في الإقليم على نيّة بكين الاستفادة من انشغال القوى الدولية التقليدية (الولايات المتحدة ومجموعة الاتحاد الأوروبي) لتعزيز حضورها الأفريقي، في ظلّ بيئة دولية مناسبة تماماً لهكذا تحوّل.