هل بات العالم على موعد جديد مع عودة التنظيمات الإرهابيّة هذه الأيّام بعد مقتل الزعيم الثاني لتنظيم “داعش” الإرهابي مؤخرا على يد القوّات الأمريكيّة؟
الجواب مرتبط ارتباطًا وثيقًا بما جرى خلال العقدَيْن المنصرمَيْن، وفيهما جرت محاربة التنظيم الإرهابي عبر القوة الخشنة فقط، وقد شَبَّه البعضُ الحرب الأمريكية على الإرهاب بأنها “حرب على الغضب”، والغضب قيمة معنويّة وليست ماديّة، وعليه فإنه من الصعب جدًّا الانتصار على الغضب..
لم يتوقّفْ الكثيرون عند الأسباب الأصليّة، التي دفعت الإرهاب للعودة مرةً جديدة، رغم الانكسارات التي أصابت تنظيم “القاعدة”، ومن بعده “داعش” الإرهابيين، ولم يلاحظ أحد أنها كانت هزائم مادية تتعلق بالحضور اللوجستي ومستويات التسَلّح فحسب، ولا علاقة لها بحرب الأفكار.
فات الذين شَنّوا الحملات على الإرهاب أنه في الأصل “أفكارٌ”، ومن غير مقارعة الرأي بالرأي، والحُجة بالحُجة، فإنه يصعب على الدول والجماعات الانتصار على العنف، لا سيما إذا كان منطلقه دوجمائيا أكثر منه أيديولوجيًّا.
الذين فرحوا وهلّلوا لمقتل زعيم داعش الثاني، لم يلتفتوا كثيرًا إلى أن هناك رجلاً آخر حَلَّ محله بسرعة وبتراتبِيّة تلفت الأنظار، ما يعني أن اللجوء إلى مثل تلك الضربات قد يُنهِي في الحال حياة إرهابيّ، لكن حكمًا سيولد من ورائه عشرات الإرهابيّين.
وبالعودة إلى علامة الاستفهام المتقدّمة والخاصّة بعودة الإرهاب، نقول إنّ الساحة الدوليّة ربّما توفّر في الوقت الراهن مساحة جَيّدة للغاية من الحواضن العشوائية، التي ينمو ويترعرع فيها الإرهاب من جديد.
خذ إليك على سبيل المثال لا الحصر ثلاثة أماكن في أفريقيا على الساحل والقلب الأفريقي.
ففي ليبيا، ورغم الجهود التي بُذِلت للقضاء على خلية تنظيم “داعش” في الجنوب بنوع خاص، فإن العودة تبدو اليوم ممكنة جدًّا، والسبب الفجوات الأمنيّة الكبرى التي تظهر يومًا تلو الآخر من جَرّاء الخلافات السياسيّة بين الليبيّين، ما يتيح الفرصة لجيوب إرهابية في مختلف بقاع الدولة المفتّتة نظريًّا إلى ثلاثة أجزاء.
أما في تونس، فلا يزال بقاء تَيّار الإخوان، حركة النهضة، ولو خارج الحكم ودوائره، يفتح جيوبًا فكريّة قبل أن تكون لوجستيّة لاحتضان الإرهاب.
أمّا عن مالي، فقد باتت مرشَّحة لتكون خلفيّة لتنظيم “داعش” مرة أخرى، بل وبلغ الأمر حدَّ تخطيط فرنسا للانسحاب الكامل من هناك، خوفًا على حياة جنودها، ولإدراكها أن مستقبلاً إرهابيًّا مظلمًا ينتظر المنطقة، التي تتصارع من حولها القوى الكبرى، وفي الوقت عينه تنمو جماعات الإرهاب نموًّا غير مسبوق.
يعيش العالم في هذه الأوقات ضبابيّة غير مسبوقة، وتبدو فخاخ أمميّة منصوبة للسلم والأمن العالميَّيْن، ومثال على ذلك ما يجري على الحدود الروسية-الأوكرانية، حيث يمكن أن تندلع المواجهات، متدرّجة من محدودة إلى شاملة، ومن إقليميّة إلى عالميّة، وليس سرًّا القول إنّ تلك التنظيمات الإرهابية تنمو جيدًا في القلب من التوترات، وتتصاعد على هامش الحروب، وتجد غذاءها المعنويّ في حالات الانفلات الكبرى، كما جرى في مناطق الصراع بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتّحاد السوفييتي سابقا.
ولعلّ ما جرى في سجن الحَسَكة في سوريا الشهر الماضي يلفت الانتباه إلى أن تنظيم “داعش” الإرهابي لم يمت ولم ينته إلى الأبد، بل إن العقول التي تفكر له من أعضائه لا تزال تتحَيَّن الفرصة للعودة والضرب بيد من حديد مرةً جديدة، وهذا ما التفتت إليه صحيفة الجارديان البريطانية قبل بضعة أسابيع، والتي اعتبرت أن كوادر التنظيم تحاول استغلال نقاط الضعف بين سوريا والعراق، ومن أسف شديد فإن هناك الكثير، بل والكثير جدًّا من الأنقاض التي يمكن للدواعش أن يجدوا فيها ملاذًا ومهربًا.
وفي الحديث عن الإرهاب وإمكانية تناميه وعودته البغيضة مرة أخرى، تطفو على السطح إشارات مثيرة للقلق، وبخاصة في ظلّ ما هو معلوم عن علاقات دول غربية كبرى في مقدّمها الولايات المتحدة الأمريكية بجماعات الإسلام السياسي، بل والجماعات المسلَّحة الإسلامويّة منذ منتصف خمسينيات القرن الماضي وحتّى الساعة.
ومؤخّرًا كتب هارون زيلين، من معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، عن العلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية وتنظيم “هيئة تحرير الشام”، والذي هو دون أدنى شكّ أحد التنظيمات الإرهابية، التي عاثت فسادًا في سوريا ونواحيها.
“زيلين” يطالب الحكومة الأمريكية بأن توضح علاقتها أو عدمها بهذه الجماعة، التي يعلم القاصي والداني أنها “كانت وحدة سابقة تابعة لتنظيم داعش، وقبلها للقاعدة، ومعروفة بإرهابها وانتهاكها لحقوق الإنسان خلال سنوات الأزمة السورية”.
لم تتعلم واشنطن الدرس بعد عقدين من أحداث الحادي عشر من سبتمبر، فقد لُدِغت من “القاعدة”، التي دعمتها سابقًا، والآن باتت تتلاعب بجماعات يومًا ما يمكنها أن تصيب المصالح الأمريكيّة وتزهق أرواحًا أمريكيّة بريئة، ناهيك بالخسائر التي عادةً ما تصبّ على رأس دول المنطقة المنكوبة من التحالفات المشبوهة بين القوى الغربيّة والجماعات الإرهابية.
هل من خلاصة؟
محاربة الإرهاب والسعي للقضاء عليه ليست مسألة عسكرية بالمطلق، ولا استخباريّة بالكامل، وإن كان الجناحان المتقدّمان مهمّين أيّما أهمية.. لكنّ الحقيقة تتمثّل في ضرورة وجود نية حقيقيّة عقلاً ونقلاً، لمحاربة الشرّ، لا التلاعب والغزل على المتناقضات من حوله، حرب تبدأ بالعقول والأفكار ولاحقًا باللوجستيات، وما خلا ذلك يعني أن العالم يلفّ في دائرة مفرغة قاتلة أمس واليوم وإلى ما شاء الله.