ظهرت المكارثية (McCarthyism ) في الخمسينات من القرن الماضي الميلادي ، في أوجه الحرب الباردة التي كانت تدور رحاه بين المعسكر الغربي بقيادة أمريكا والمعسكر الشيوعي بقيادة الاتحاد السوفيتي السابق . وقد تزعم في ترويجها العضو السابق في مجلس الشيوخ الأمريكي جوزيف مكارثي (١٩٠٨ – ١٩٥٧) م.
أكبر ركيزة تعتمد عليها وتؤسس على بنيانها في التعامل مع من يختلف معها أو لا يوافقها فيما تذهب إليه وتتعاطى به من رأي أو فكرة أو مذهب ومشرب هو: اتهامه بما هو بريء منه، وتشويه سمعته، وتلويث اسمه، من أجل إسكاته أو الانتقام منه ، أو ابعاده عن مراكز التأثير، أو غير ذلك من أساليب قذرة تأباها النفوس الزكية والفطر السليمة.
وبسبب هذا الحقد الأسود اتهم عدد من موظفي الحكومة الأمريكية باعتناقهم أو تأييدهم، أو العمل لصالح الشيوعية، وتم إنشاء لائحة سوداء لكل المستهدفين، ولم تقتصر على الموظفين العاديين ذوي الرتب المتدنية فقط، بل تضمنت أسماء عدد من أعضاء مجلس الشيوخ .
ولأجل هذه التهم الكيدية التي لا تستند إلى دليل صريح، فَقَد كثير من الأبرياء وظائفهم الرسمية ومكانتهم الاجتماعية.
ولكن بعد تحقيق أجراه مجلس الشيوخ تبين أن هذه الاتهامات كانت كيدية ومحض افتراء وإساءة إلى أبرياء لم يرتكبوا أي جرم يعاقب عليه القانون، وقد أصدر المجلس في عام ١٩٥٤م، قرارا بتوجيه اللوم إلى صاحب الفكرة .
تمثل المكارثية الإرهاب الفكري والثقافي لمن لا يروق لك بأطروحاته وأفكاره وأرائه التي لا تتمشى مع رأيك أو رأي جماعتك وحركتك وقبيلتك وسلطتك وموقع نفودك.
تستخدم الأنظمة الشمولية بأوصاف وألقاب تلصق بها كل من لا يوافقها في الرأي والمشرب، وتتهمه بالرجعية والتخلف وأعداء التقدم، وتقويض نظام الحكم أو الخدمة لأعداء البلد أو السعي وراء النفع الشخصي، أو غير ذلك من الألقاب والأوصاف القبيحة.
وقد استخدم هذه الدعاية الكاذبة فرعون اللعين في مواجهة دعوة موسى عليه السلام متباكينا على وحدة الأرض والشعب، ومتهما إياه بالفساد والإفساد، وتوعد له بالويل والهلاك (وَقالَ فِرعَونُ ذَروني أَقتُل موسى وَليَدعُ رَبَّهُ إِنّي أَخافُ أَن يُبَدِّلَ دينَكُم أَو أَن يُظهِرَ فِي الأَرضِ الفَسادَ ) غافر ٢٦.
ولم تكن صناديد قريش أفضل حالا من فرعون، بل أقاموا الدنيا ولم يقعدوها من أجل تشويه وتنفير الناس عن الدعوة الميمونة التي حمل لواءها الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم، متهمين إياه بما هو بريء منه، واعتبروا الدعوة إلى التوحيد بمثابة الخروج عن دين الآباء والأجداد ( أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلهًا واحِدًا إِنَّ هذا لَشَيءٌ عُجابٌ ) ص ٥ ، ( وَقالوا أَساطيرُ الأَوَّلينَ اكتَتَبَها فَهِيَ تُملى عَلَيهِ بُكرَةً وَأَصيلًا )الفرقان٥.
إذا فتشويه الأبرياء سنة ماضية لا تعرف زمانا ولا مكانا ما دام هناك نفوش شريرة لا تريد الخير إلا لنفسها ولا تقبل أن يكون المرء حرا في رأيه ومشربه ومن يختلف إليه ويتعاون معه.
هذا التعامل السيء للمخالفين لا ينحصر في ميدان السياسة فقط بل يوجد بين بعض من ينتسبون إلى العلم وأهله الذين يوظفون علمهم من أجل لعاعة آجلة وشرف عابر ، فهم الذين أشار إليهم الإمام الغزالي رحمه الله تعالى في قوله وحذر منهم ومن مصاحبتهم ومرافقتهم فقال : ( واحذر مخالطة متفقهة الزمان ، لا سيما المشتغلين بالخلاف والجدال واحذر منهم ، فإنهم يتربصون بك – لحسدهم – ريب المنون ، ويقطعون عليك بالظنون ، ويتغامزون وراءك بالعيون ، ويحصون عليك عثراتك في عشرتهم ، حتى يجابهوك بها في حال غيظهم ومناظرتهم ، لا يقيلون لك عثرة ، ولا يغفرون لك زلة ، ولا يسترون لك عورة ، يحاسبونك على النقير ، والقطمير ، ويحسدونك على القليل والكثير ، ويحرضون عليك الإخوان بالنَّمِيمَة ، والبلاغات ، والبهتان ، إن رضوا فظاهرهم الملق ، وإن سخطوا فباطنهم الحنق ، ظاهرهم ثياب ، وباطنهم ذئاب . هذا ما قطعت به المشاهدة على أكثرهم، إلا من عصمه الله تعالى فصحبتهم خسران ومعاشرتهم خذلان. هذا حكم من يظهر لك الصداقة، فكيف من يجاهرك بالعداوة) .بداية الهداية ص٦٨-٦٩.
فكأن الحركات الإسلامية تسرب إليها هذا الداء بسبب عيشها في ظل حكم استبدادي وأخذت من أخلاقه بعض الشيء لأن الطبع يسرق من غير وعي.
الحركات الإسلامية الصومالية جهد بشري يعتريها ما يعتري المنظمات والشركات والمؤسسات والدول والحكومات والأفراد من مرض وعجز وفشل ونقص وليس أفرادها وقادتها معصومين ومنزهين من الخطأ المتعمد وغيره، ولكن لو بقي هذا الخطأ في ظرفه البشري لكان هينا ومقبولا، وللأسف إنه لم يقتصر على ذلك بل تجاوز إلى حدود آخر.
وتُطل علينا اليوم مكارثية من نوع آخر، ولكنها بلباس ديني ورداء شرعي بحجة حماية الدعوة وضمان انسيابها بصيرورة متدفقة، والأَحْرى بتحصين الحركة أو الجماعة من الدخلاء وممن لا ينتمون إليها قلبا وقالبا أو لا يتعاطفون معها بوجه من الوجوه.
هناك ألفاظ ومصطلحات يلصق بكل من يراد تشويه سمعته وتعكير صفوه حتى يفر بجلده أو ينزوي بنفسه ويعتزل عن ساحة الدعوة ، ومن هذه الالفاظ أنه “عدو للدعوة ” أو ” له مأرب أخري ” ، أو “عنده مشاكل شخصية ” أو ” يعاني عقدة نفسية ” أو ” لا يتفق مع أحد ” أو ” يكره التنظيم ” أو ” شخص نعرفه ” أو ” لا يثق بنفسه ” أو ” أعماه الحسد ” أو غير ذلك من أوصاف وألقاب شائنة وكريهة .
وقد راج في هذه الأزمة إطلاق هذا المقولات كل من تحدث أو قال : تحتاج الحركات الإسلامية الصومالية إلى اصلاح ، أو نقل ونشر ما كُتب عنها ، أو طالب بمراجعة انجازاتها وإخفاقاتها وتنفيد وتطبيق لوائح ونظام الحركة بحذافيرها ، أو طلب بمساواة أبناء الحركة ، أو قال يجب تعامل الناس بالكفاءة لا بالثقة ، واحترام التخصصات ، أو تطبيق مبدأ المحاسبة والشفافية ، أو أبدى رأيه في مجريات الأمور ، أو تجرأ بذكر عيوب الحركة ، أو لم يمدح قيادة الحركة ، أو طالب بإعطاء الجيل الناشئ دورا أكبر في قيادة الحركة ، أو قال يجب التفريق بين مصالح الحركة ومصلحة القيادة ، أو فكر في السعي والتعامل والتقارب مع الجماعات الإسلامية الأخرى ، أو لم يوالى أبناء الحركة أكثر من ولائه للآخرين ، أو لم يُقدم دفاع الحركة عن دفاع المنهج ، أو لم يظهر انجازات الحركة في المحافل ، أو اعترض وأظهر تبرما من قرارات الحركة ، أو لم يعتقد أن جميع الملتقيات والمؤتمرات والفعاليات العلمية والدعوية مخصصة لدعاة الحركة أو لمن تريد الجماعة بمجاملته من أجل ارضاء جمهور ما ، أو لم يتبنى بأن المراكز والمساجد التابعة للحركة لا يستضاف فيها إلا دعاة الحركة، أو أشاد كل من شارك أو ساهم في مشروع نهضوي للأمة ولو لم يأتِ عن طريق الحركة ، أو علَّق المقالات المنشورة في مواقع الحركة بما يخالف الاتجاه السائد في أبجدياتها ، أو تحدت عن تناقضات الحركة في التعامل مع المستجدات والأحداث الماضية والحالية .
ويُتدرج لكل من يُراد تشويهه واغتياله معنويا ونفسيا بالخطوات التالية: محاولة الطعن في عقيدته وتدينه ، فإن لم تنفع فينتقل التشكيك في مستواه العلمي والمعرفي وصحة الألقاب والشهادات التي يحملها ، فإن لم يجدي ذلك نفعا ، فيبحث عن محاضن العلم التي انتسب إليها أو المشايخ الذين تتلمذ عليهم من أجل تصويره بأنه دَعي ولابس ثَوبي زور ، فإن أعياهم هذا الصنيع ، اتهموا في سلوكه وأخلاقه وتعامله مع الناس ورميه بالتشدد وبداءة القول ، فإن لم يأت ذلك الصنيع أكله ، يتم التصيد ببعض كلماته التي أخرجت عن سياقها من أجل إدانته ، فإن فنيت كنانتهم ولان عيدانهم وأصاب الرمد على راميهم وسقط الغرض قبل وصول النبل إليه وأيقنوا بأن الحيل التي تستروا وراءها ذهبت مع أدراج الرياح وأن مسعاهم خاب وخسر ، ختموا على مشوارهم الشيطاني بالضربة القاضية التي لا تقبل بعدها اعتذارا ولا شفاعة ولا استئنافا وهو اتهام المجني عليه بأنه يُبغض ويكره القَبيلة الفُلانية … فهذا الاتهام الأخير كاف بأن يغضب عليه كل شيء ويكون تحت رحمة قول جرير :
إذا غضبت عليك بنو تميم حسبت الناس كلهم غاضبا.
فإذا كانت هذه أخلاق بعض من ينتمون إلى العلم والدعوة، وليس لديهم دين ولا خلق يحجزنهم عن هذه الأفعال الشنيعة ولا مروءة تحملهم الترفع عن هذه الدنايا فعلى الأخلاق السلام، ولقد صدق أمير الشعراء أحمد شوقي عندما قال :
وإذا أصيب القوم في أخلاقهم فأقم عليهم مأتما وعويلا.
كان الواجب على هؤلاء الفضلاء أن يتعاملوا مع من يختلفون معهم في الرأي المجرد ولو كانوا ألدّ أعدائهم بأخلاق القرءان الكريم الداعية إلى العدل والإنصاف وعدم الظلم والبغي مع المخالفين مهما كانت جريمتهم وانتمائهم الديني ، فكيف من يشترك معهم في أصل الدين وفروعه وإن اختلف معهم في الرأي المجرد ، فقال الله تعالى ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا كونوا قَوّامينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالقِسطِ وَلا يَجرِمَنَّكُم شَنَآنُ قَومٍ عَلى أَلّا تَعدِلُوا اعدِلوا هُوَ أَقرَبُ لِلتَّقوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبيرٌ بِما تَعمَلونَ﴾ المائدة ٨ .
وأخيرا لا تُبنى الدعوة ولا تقام الحركات بالتهم والإساءة لمن يتوفى الخير وينشد المساهمة في نشر الخير ولو كان مخالفا في الرأي والجهة والانتماء، بل بالمناقشة والكلمة الطيبة والاحترام والتقدير.
فعلى العلماء والدعاة الصوماليين أن يتقوى الله تعالى في أقوالهم وأفعالهم ولا تحملهم النفس الأمارة بالسوء بمخالفة هدي الإسلام في معاملة من لا يشاطرهم في الرأي أو المذهب والحركة ، وعدم تحويل الساحة الدعوة إلى ميدان لإشاعة مقالة السوء وإساءة الآخرين .