عرض وترجمة: أحمد بركات
انزلقت الصومال إلى أتون الحرب الأهلية في نهاية ثمانينيات القرن الماضي عندما حملت العديد من الحركات المتمردة القائمة على أسس عشائرية السلاح ضد الرجل القوي الذي تربع على عرش البلاد لفترة طويلة، محمد سياد بري، والذي أطيح به في نهاية المطاف في عام 1991.
من بين الفصائل المتمردة، برزت بقوة منظمة “الاتحاد الإسلامي” (AIAI)، وهي منظمة سلفية تشكلت في ثمانينيات القرن الماضي وتنصلت علنا من العشائرية.
كان المجتمع السلفي الصومالي بوجه عام قد حشد بقوة لمعارضة مشروع “الاشتراكية العلمية” الذي تبناه بري في السبعينيات والثمانينيات، وهو الوقت الذي انفتحت فيه أعداد متزايدة من الصوماليين على الأفكار الإسلاموية والسلفية إلى درجة غير مسبوقة، وذلك من خلال المنح الدراسية والمعاهد الدينية والمنظمات غير الحكومية الممولة بالدولارات البترولية الخليجية.
وفي نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات ذهب بعض أعضاء الاتحاد الإسلامي إلى أفغانستان، حيث تم تدريبهم هناك في معسكرات تابعة لتنظيم القاعدة، أو في أي معسكرات أخرى تابعة “للعرب الأفغان”. وبدوره، سعى تنظيم القاعدة لدعم الحركة الصومالية الوليدة من مكاتبه في الخرطوم.
كانت جاذبية الصومال للجهاديين واضحة، فقد منح سقوط دولة سياد بري الفرصة للإسلاميين لإعادة تنظيم أنفسهم لإقامة نظام حكم يستند إلى تطبيق الشريعة لإسلامية. إضافة إلى ذلك، كانت القوات الأمريكية حاضرة في الصومال لدعم بعثة الأمم المتحدة لحفظ السلام والإغاثة الإنسانية منذ عام 1992، وكان أسامة بن لان غير قادر على إجلاء “جيوش الكفار” – على حد وصفه – من موطنه العربي، لكنه شعر أن الصوماليين قد يكونون أكثر نجاحا بمساعدة المجاهدين التابعين له في إنجاز هذه المهمة على أرضهم.
في هذا السياق شن تنظيم القاعدة في ديسمبر 1992 أولى هجماته “الخارجية” لتفجير أحد الفنادق في اليمن، وبغض النظر عن فشل العملية فإنها كانت تستهدف بالأساس قوات أمريكية كانت في طريقها إلى الصومال.
بعد عدة أشهر، دخل بعض المدربين التابعين لتنظيم القاعدة إلى الأراضي الصومالية عبر حدودها مع كينيا، وربما شارك المقاتلون الذين تم تدريبهم على يد تنظيم القاعدة في معركة “سقوط الصقر الأسود” (بلاك هوك داون) في أكتوبر 1993، وهى المعركة التي تشكلت على إثرها الرؤية العالمية لتنظيم القاعدة. لقد أسفرت هذه المعركة عن مقتل 19 جنديا أمريكيا إلى جانب عدة مئات من الصوماليين. وقد عزز الانسحاب اللاحق للقوات الأمريكية من الصومال قناعات ابن لان بأن “العدو البعيد” سوف يرحل عن بلاد المسلمين عندما يرى دماءه تراق على أرضها.
لكن آمال ابن لادن في إقامة دولة جهادية سلفية في الصومال كانت سابقة لأوانها، فقد شعرت العناصر العربية في تنظيم القاعدة بالإحباط والاستياء إزاء نظام أمراء الحرب في عقد التسعينيات، والذي أدى إلى حشد المليشيات حول مظالم عشائرية مبهمة بدلا من حشدها حول دعوة دينية صريحة. إضافة إلى ذلك، لم يكن من السهل استغلال الصومال كمسرح عملياتي لأسباب لوجستية.
بعد طرده من الخرطوم، تحول ابن لادن سريعا إلى إنشاء قاعدة عمليات في أفغانستان الواقعة تحت السيطرة الطالبانية، والتي كانت تمتلك بنية تحتية غير متوافرة في الصومال. علاوة على ذلك، في أعقاب أحداث سبتمبر، قامت كل من الأمم المتحدة والولايات المتحدة بتصنيف منظمة “الاتحاد الإسلامي” كمنظمة إرهابية نظرا لعلاقاتها مع تنظيم القاعدة، لكن المنظمة كانت قد تداعت فعليا بحلول ذلك الوقت.
ومع تزايد الانقسامات بين فصائل أمراء الحرب في نهاية التسعينيات، بدأ شيوخ العشائر في تشكيل محاكم شرعية شعبية في مقديشيو لملء الفراغ الذي خلفه سقوط الدولة وغياب الحكم. وقد أظهرت هذه المحاكم قبولا شعبيا طاغيا بسبب ما أبدته من قدرة على فرض النظام وتطبيق القانون بعد فترة من تفشي الفوضى وغياب الأمن. ونجحت هذه المحاكم في تهيئة الأجواء لعودة مظاهر الحياة إلى الجسد الصومالي، فتمكن رجال الأعمال من نقل منتجاتهم، وعادت النساء إلى الخروج من بيوتهن مجددا.
وفي محاولة لتمديد نفوذها، أنشأت بعض هذه المحاكم مليشيات توحدت جميعها في نهاية المطاف تحت راية “اتحاد المحاكم الإسلامية” في عام 2000. وفي نهاية عام 2006، بسط الاتحاد نفوذه على مساحة كبيرة من جنوب الصومال، برغم أنه ظل منظمة فصائلية غير متماسكة.
ليس من المستغرب في ظل هذه الأوضاع أن يجد كثير من أعضاء منظمة “الاتحاد الإسلامي” موطنا جديدا في “اتحاد المحاكم الإسلامية”. ومن ثم، كان للحضور الجهادي في الصومال والدور الذي لعبه “اتحاد المحاكم الإسلامية” في إيواء عناصر “القاعدة في شرق أفريقيا” أثر بالغ في توجيه انتباه المسئولين في الاستخبارات الأمريكية بقوة إلى الصومال في أعقاب أحداث سبتمبر.
وعلى مدى بداية ومنتصف العقد الأول من هذه الألفية، لم تأل وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية جهداً في تمويل أمراء الحرب الصوماليين لملاحقة الجهاديين، رغم ذلك، لم يتمكن هذا البرنامج من تحقيق نجاحات تذكر.
وفي السنوات الأولى من هذه الألفية برزت حركة “شباب المجاهدين” كجناح مسلح في “اتحاد المحاكم الإسلامية”، وضمت بين صفوفها كثيراً من الأعضاء السابقين في “منظمة الاتحاد الإسلامي”. لكن هوية الجماعة بدأت فعليا في التبلور على الأرض بعد ديسمبر 2006 عندما قامت قوات إثيوبية مدعومة بسلاح الجو الأمريكي بغزو الصومال لطرد “اتحاد المحاكم الإسلامية” من مقديشيو وإعادة الحكومة الفيدرالية الانتقالية المنفية، والمعترف بها من قبل الأمم المتحدة، لتولي مهامها.
أدى الهجوم العسكري الإثيوبي إلى فصم عرى “اتحاد المحاكم الإسلامية”، لكنه سمح في الوقت نفسه لحركة الشباب الوليدة بالاستفادة من تصاعد المد القومي الصومالي ردا على الغزو الأثيوبي.
كان الصوماليون يحملون مظالم تاريخية متجذرة ضد إثيوبيا، التي تمثل تاريخيا مملكة مسيحية توسعية تسعى إلى الوحدوية حتى يومنا هذا من أجل استعادة ملكها الغابر. لذا، فقد واجه كثير من الصوماليين عملية الغزو عام 2006 منذ بدايتها بكثير من التشكك والريبة، وفي كثير من الأحيان بالعداء الفج. في الوقت نفسه لم تساعد العقيدة العسكرية الإثيوبية الفظة المتأثرة بالسوفيت في كسب قلوب وعقول الصوماليين. رغم ذلك، لم تقم سردية “حركة الشباب” على مناهضة الإثيوبيين في المقام الأول، وإنما ركزت بدرجة أكبر على الدعم الأمريكي للحملة العسكرية الإثيوبية على خلفية الحرب في أفغانستان وزيادة القوات الأمريكية في العراق، فبالنسبة إلى “حركة الشباب” كان هذا الاجتياح العسكري الأثيوبي هو أحدث تجسيد لـ “العدوان الصهيو صليبي” على بلاد المسلمين. وحتى يومنا هذا، يعالج خطاب الحركة المظالم القومية الصومالية في إطار جهادي سلفي يتم من خلاله ربط محنة الصوماليين بمحن إخوانهم المسلمين في سائر بلدان المشرق الأفريقي، وعلى نطاق أوسع، بالمحنة التي تواجهها الأمة الإسلامية.
(يُتبع)
جيمس بارنيت – باحث وكاتب مستقل ومحرر في مجلة The American Interest
*هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص الأصلي وهوامش الدراسة باللغة الإنجليزية على هذا الرابط:
https://www.hudson.org/research/16075-the-evolution-of-east-african-salafi-jihadism