الصومال اليوم

الإسلام السياسي والديمقراطية

الاجتماع القسري الذي أمرت بعقده إيران بين الفائز الأكبر في الانتخابات الأخيرة مقتدى الصدر وبين الفصائل الولائية المسلحة التي وعد بسحب سلاحها ومحاسبة فاسديها، أعاد إلى النقاش مسألة إمكانية إقامة مجتمع ديمقراطي حقيقي في العراق أو في غيره من الدول الإسلامية على أيدي السياسيين الإسلاميين وأحزابهم وفصائلهم المسلحة.
فقد أثبت هذا الاجتماع أمرين، الأول أن إيران (وهي المحكومة بدكتاتورية رجال دين) لا يناسبها تشكيل حكومة أغلبية وطنية كما يريدها مقتدى، ولا يسرها أصلا قيام نظام ديمقراطي في العراق أو لبنان أو سوريا أو إلى من يساوي بين الناس ويعدل ويكون فيه للناخبين أن يختاروا حكامهم بحرية وشفافية ونزاهة وبلا وصاية.
والثاني أن السياسيين الإسلاميين عموما وخاصة المسلّحين منهم، لا يرضيهم سوى نظام يسمح لهم بالتحلّل من جميع الضوابط والموانع التي تضعها الأنظمة الديمقراطية الحقيقية لمنع استغلال النفوذ والاعتقال الكيفي واغتيال المعارضين والتصرف بثروات الدولة دون رقيب أو حسيب.
وما لجوؤهم إلى الانتخابات إلا من أجل الوصول إلى السلطة، بأية وسيلة، ثم احتكارها، خلافا لأبسط مفاهيم الديمقراطية وأحكامها.
ويكفي تمسكُهم بمقولة “المكون الأكبر” الذي يحق له وحده امتلاك السلطة والسلاح والثروة، ثم استحواذُهم على حق تمثيل هذا المكون، دون تفويض شعبي حقيقي من باقي شرائح هذا المكون التي ليست كلُها دينية، ولا كلها موالية لإيران، ولا كلها مع وجود سلاحٍ غير سلاح جيوش الدولة وقواتها المسلحة. وهم بهذا السلوك الانقلابي التسلطي يغلقون الأبواب كلها بوجه الديمقراطية، ويمنعونها من الدخول.
ولكن، لأنهم أدركوا أن هذا العصر هو عصر الديمقراطيات الذي جعل الجماهير العريضة في البلاد العربية والإسلامية تعتقد بأن خلاصها من سطوة الدكتاتوريات لن يكون إلا بالديمقراطية وأدواتها، فقد أصبحوا يتفنّنون في إظهار حبهم للديمقراطية، على طريقة “تمسكن حتى تتمكن”.
وهم بهذا يرتكبون خطيئتين، الأولى بحق الدين الإسلامي نفسه، لأنهم بذلك يقولون إن الإسلام غير ديمقراطي، لذلك يحتاج إلى نظام آخر يسمى ديمقراطية، رغم أنهم يعتبرونها حين يخلو بعضُهم إلى بعض بدعةً مستوردة من الغرب الاستكباري العلماني الكافر، و”كلُ بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار”.
والخطيئة الثانية يرتكبونها بحق الديمقراطية ذاتها وقوانينها وقواعدها الحقيقية، لأنهم بإعلانهم الانتسابَ إليها، جعلوا المواطن البسيط يكرهُ الديمقراطية، ويلعن الساعة التي جاءت بها وبهم إليه. فلن يكون هؤلاء ديمقراطيين وهم غارقون في سراديب الفكرٍ الماضوي المتخلف، ويبيحون لأنفسهم القتل والاغتيال والتبعية للخارج والرشوة والاختلاس باسم الله ورسوله وآله، وهم كاذبون.
فالديمقراطية ثقافة وسلوك وطبيعة. والذي تربى على سلطة المرجع الديني الداخلي أو الخارجي الذي لا تَقبل أوامرُه وفتاواه المراجعةَ والمناقشة، ثم تعوَّد على اعتبار العصبية القبلية والطائفية والعنصرية من ضرورات الرجولة، لا يمكن أن يتغير، ويتحول إلى داعية رأي ورأي آخر، وقابلٍ للتعايش مع الآخرين بسلام.
ولنا في النظام الإيراني الإسلامي (الشيعي) عبرة. فله ديمقراطية خاصة به لها قواعدها الصارمة في تنظيم العمل السياسي، وتحديد المرشح والناخب، بحزم وقسوة وجبروت.
وللأحزاب والأنظمة (السنية) أيضا ديمقراطيتُها التي عرفت بها. ومنها مثلا ديمقراطية الإخوان المسلمين التي تبيح لهم رمي المعارضين من أسطح البنايات العالية وهم أحياء، كما فعلوا في مصر في مواجهة الملايين التي خرجت لإسقاطهم في يونيو 2013.
ثم إن ديمقراطية القاعدة وطالبان والزرقاوي وداعش والنصرة والحوثييين وحزب الله اللبناني والميليشيات الولائية العراقية معروفة ولا تحتاج إلى المزيد من الكلام، فهي ديمقراطية خناجر وسيوف وسكاكين ومفخخات وتجارة مخدرات.
ومن المستحيل أن نجد مواطنا عاقلا واحدا في إيران وأفغانستان والعراق ومصر وسوريا واليمن ولبنان وفلسطين وليبيا والصومال وغيرها يقبل بديمقراطية وديمقراطيين من هذا النوع.
وبالتالي فإن حياتنا لن تنصلح، ولن تعود عزيزة وآمنة ومزدهرة كما كانت إلا إذا خرج هؤلاء من حياتنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية، تماما ونهائيا، وإلا إذا دخلنا في العصر الديمقراطي العلماني الحقيقي الذي يحترم أديان الناس جميعها وعقائدهم كلها، ولكنه يمنع رجل الدين من فرض فتاواه ومفاهيمه ومقاييسه على دساتير الدولة وقوانينها، ويضمن المساواة بين جميع المواطنين في الحقوق والواجبات، ويغسل العقول والقلوب من الأوهام والخرافات والأساطير، ويجعل رجال الحكومة موظفين لدى المواطنين، ولا يجعل المواطنين عبيداً للحكومة.
حينها سوف يجد الساسة المعممون أنفسَهم مرغمين على اختيار واحدٍ من اثنين، إما أن ينزعوا عمائمهم ويدخلوا عالمَ السياسة في القرن الحادي والعشرين بلا عمائم، ثم ينصاعوا، دون تقية وغش وخداع، لأفكار العصر الحديث وثقافاته وقواعده وقوانينه، أو أن يغادروا شوارع السياسة، ويعودوا إلى جوامعهم وحُسينياتهم، ويتفرغوا للصلاة والدعاء، ويتركوا السياسة لأهلها.

ومن أكبر منافع انتخابات العراق الأخيرة أنها كشفت حقيقة العشق الكاذب للديمقراطية لدى السياسيين الإسلاميين المسلحين، وبرهنت على أنهم يحبونها فقط وسيلة للوصول إلى التوافق وتوزيع المكاسب والمناصب والرواتب، ولتذهب نتائج الانتخابات وصناديق الاقتراع وأحلام الناخبين إلى جهنم وبئس المصير.

وهذه هي الخلاصة. لن تكون لدينا ديمقراطية حقيقية ما دام في وزارات الخارجية والمالية والتعليم والثقافة والإعلام والسياحة والشرطة والجيش سياسي معمم واحد يُحرّم التماثيل والغناء والموسيقى، ويروج لأساطير العصور القديمة، ويَهدر دمَ كل من يدعوه إلى مغادرة الكهوف المظلمة والخروج إلى فضاء الزمن المنور الجديد.

*كاتب عراقي

Exit mobile version