من الطبيعي أن ينزعج الرئيس إردوغان وهو يستمع إلى نغمة عربية جديدة لم يألفها من قبل، وأن تجارته قد باءت بالفشل وهو الذي راهن على محاولة استغفال الشعوب العربية بالخطاب الدوغمائي ومتاجرته بالقضية الفلسطينية، وتوظيف دعمه جماعة الإخوان لأجندته السياسية. لم يتصور إردوغان أن يأتي يوم وتُشكل في قلب الجامعة العربية لجنة معنية بمتابعة التدخلات التركية للشؤون الداخلية للدول العربية. لم يصدق الرئيس التركي أن انحراف سياسة بلاده أوصل بها الحال إلى هذه النتيجة، وأنه اليوم يدفع ثمناً باهظاً لقراراته المتهورة.
جاء البيان الذي صدر عن الجامعة العربية بالأمس لافتاً هذه المرة، وتضمن رسائل واضحة، ومثّل صفعة قوية للنظامين التركي والإيراني. يبدو أن العرب أدركوا أخيراً، أنه قد آن الأوان للمواجهة، وأن الأمن القومي العربي مهدد ولا يعيش أفضل حالاته. مضامين كلمة وزير الخارجية السعودي أيضاً شملت توصيفاً دقيقاً لحال العرب ولم يكتفِ بذلك، بل طرح حلولاً ناجعة للمشكلات كمطالبته «بوقفة جادة ضد جميع التدخلات الخارجية في الشؤون العربية الداخلية ورفض تحويل دولنا ومجتمعاتنا إلى ساحات لمشاريع الآخرين لبسط الهيمنة والتوسع والنفوذ على حساب أمن واستقرار ووحدة دولنا».
إيران وتركيا دولتان جارتان للعرب، ولا نقلل من قيمة الحضارة والتاريخ، ونحترم الشعوب وعقائدها، لكن ما يحدث أحياناً أنه قد يتعرض هذا الشعب أو ذاك في بعض الأوقات إلى محن ومصائب بوصول زعامات وقيادات تتولى السلطة، وبالتالي تتحكم في مصائر تلك الشعوب التي لا حول لها ولا قوة. حزب العدالة في تركيا ونظام الملالي في إيران نموذجان يجسدان تلك الحالة وبامتياز، ويلعبان اليوم بسياسة بلديهما ويقحمانهما في مشاكل ونزاعات، ويضمران الشر والبغض للأمة العربية، ولا يستطيعان الانفكاك من رواسب الزمن والتاريخ.
كان من المهم أن تخرج لغة مباشرة وصارمة تجاه أفعال النظام التركي الذي تمنعه غطرسته من رؤية الواقع، ويحسب للجامعة تغير أسلوب تعاطيها مع الملف التركي الذي كان خجولاً لفترة فعندما تدعو الجامعة علانية «الدول الأعضاء للطلب من الجانب التركي عدم التدخل في الشؤون الداخلية العربية، والكف عن الأعمال الاستفزازية التي من شأنها تقويض بناء الثقة، وتهديد أمن واستقرار المنطقة»، وكذلك سحب قواتها كافة الموجودة في الأراضي العربية، فإن ذلك يعد تحولاً مهماً وملحاً في ملف حماية القضايا العربية.
بيان الجامعة العربية في تقديري ما هو إلا مجرد خطوة أولى و«فركة أذن» ستتبعها خطوات أكثر تأثيراً إن لم يذعن نظام إردوغان.
قطر كالعادة تحفظت على البيان ومعها الصومال وجيبوتي. ما زال النظام القطري يمارس أساليبه وتمرده ويكون خنجراً مسموماً يستخدمه الآخرون لطعن الخاصرة العربية للأسف الشديد. لماذا يبقى النظام القطري عضواً في الجامعة العربية وفي منظومة دول مجلس التعاون الخليجي وهو الذي يسير عكس التيار ويغرد خارج السرب، بل ويدعم تلك الدول والجماعات التي تمثل خطراً على الأمن القومي العربي؟ سؤال صارخ وحارق وفي حاجة إلى إجابة واضحة من الدول الأعضاء التي لا يمكن لها قبول السلوك القطري المنافي للقوانين والمواثيق الدولية.
إذن، ما الذي يجب فعله في حالة عدم الاستجابة التركية؟ لا بد من عقوبات متنوعة تدفع النظام في نهاية المطاف لمراجعة سياساته. يجب اتخاذ إجراءات جماعية لمواجهة العدوان التركي، سواء في سوريا أو ليبيا أو شمال العراق، بما في ذلك خفض العلاقات الدبلوماسية، ووقف التعاون العسكري، ومراجعة مستوى العلاقات الاقتصادية والثقافية والسياحية مع تركيا، وهكذا تدريجياً إلى أن يستوعب النظام حقيقة ما يفعله ويتراجع عما اقترفه من أفعال سيئة وممارسات وانتهاكات خطيرة.
قبل سنوات رحب العرب بحزب التنمية والعدالة على اعتبار أن إردوغان نصير لهم ولقضاياهم قبل أن يتبين لهم لاحقاً أن ما يلوح في الأفق ليس سوى مشروع تركي إقليمي يسعى للسيطرة والهيمنة، وأن خطاباته ما هي إلا شعارات لاستمالة وجذب الشارع العربي. الرئيس التركي له مشروعه الذاتي ويسعى لدور ونفوذ إقليمي وإعادة الخيالات العثمانية.
داخل حزب العدالة والتنمية هناك أيضاً أصوات لها مكانتها غادرت الحزب رفضاً لتفرد الرئيس المفرط والمطلق بالسلطة؛ ما دفع تركيا لعزلة دولية تكلفها كثيراً. غُلب البعد الآيديولوجي على المصلحة الوطنية آنذاك وتلاشى مبدأ تصفير المشكلات، وبدأت أنقرة تمارس السلوك الإيراني ذاته من دعم جماعات وأحزاب وأطراف في دول عربية، فالمسألة إذن لم تعد نفوذاً وهيمنة فقط، بل الحصول على غنائم، وما أدراك ما الغنائم!
السياسة التركية لا تلقى رواجاً في العالم وأعداء النظام في تزايد بسبب تخبط سياساته وفجوره في الخصومة. وحتى لا نخدع أنفسنا، أساليب الاحتواء والعصا والجزرة وغيرها لا تنفع ولا تجدي مع عقليات منتفخة بالغطرسة وداء العظمة. تركيع تركيا يبدأ بالعقوبات الاقتصادية وتشديدها إذا لزم الأمر، وهنا فقط يمكن أن ننجح إن أردنا الحقيقة، ولنا في التعاطي الدولي مع نظام إيران عبرة.