كتب ـ أحمد عسكر
يبدو أن التوتر سوف يتصاعد بين كينيا والصومال خلال المرحلة القادمة، وذلك على خلفية رفض الأولى للحكم الصادر من محكمة العدل الدولية في 12 أكتوبر الفائت (2021) بشأن إعادة رسم الحدود البحرية بين الصومال وكينيا لصالح الصومال، والذي يقضي بأحقيتها في السيادة على الجزء الأكبر من المناطق البحرية المتنازع عليها في المحيط الهندي، والتي يبلغ مساحتها حوالي 100 ألف كيلومتر مربع (39 ألف ميل مربع)[1]. وقد حذّر الرئيس الكيني أوهورو كينياتا، في 20 من الشهر نفسه، من أن بلاده لن تتنازل عن شبر واحد من أراضيها، وأكد على التزام حكومته بحماية السلامة الإقليمية للبلاد، وتسليمها للجيل القادم حيث تم تسليمها له. وبررت نيروبي موقفها الرافض بالقلق من تداعيات القرار على منطقة القرن الأفريقى، وهو ما يكشف نواياها بشأن عدم تنفيذ قرار المحكمة الدولية والانصياع له؛ الأمر الذي قد يفرض انعكاسات على أمن واستقرار المنطقة.
السياق الحاكم
ظل الخلاف البحري بين الصومال وكينيا والممتد منذ عقدين ماضيين تقريبًا محددًا حاكمًا في مسار العلاقات بين البلدين خلال السنوات الأخيرة، والتي شابها العديد من التوترات كان آخرها قرار الصومال في نوفمبر 2020 بقطع العلاقات الدبلوماسية مع كينيا بسبب التدخلات الكينية في الشأن الداخلي الصومالي، قبل استئناف العلاقات مجددًا في مايو 2021[2].
وقد تعددت المحاولات الكينية من أجل تسوية الأزمة مع الجانب الصومالي بعيدًا عن التحكيم الدولي، ربما اقتناعًا منها بقدرتها على الضغط على الجانب الصومالي للتنازل عن السيادة على المناطق المتنازع عليها بين الطرفين، إلا أن تلك المحاولات باءت جميعها بالفشل في ضوء إصرار الحكومات الصومالية المتعاقبة على اللجوء للتحكيم الدولي لفض النزاع بينهما، مما دفع نيروبي إلى الاعتماد على عامل الوقت وتبني سياسة التسويف والتأجيل والمماطلة مع المحكمة الدولية بهدف إطالة أمد النظر في القضية التي بدأ النظر فيها منذ عام 2014 أملًا في التوصل لحلول مع الحكومة الصومالية.
وعقب إصدار قرار التحكيم الدولي؛ جاء الموقف الكيني رافضًا للقرار على الصعيدين الرسمي والشعبي، فقد أشارت نيروبي إلى أن القرار كان خاطئًا بشكل واضح، وأن الحكم يجسد استمرارًا لتجاوز اختصاص محكمة العدل الدولية، ويثير التساؤلات حول احترام سيادة الدول، وموافقتها على الإجراءات القضائية الدولية، لاسيما أن كينيا قد سحبت مشاركتها في القضية، وأعلنت رفضها الاعتراف بالاختصاص الإلزامي للمحكمة قبل أيام من إعلان الحكم النهائي في القضية، بالرغم من توقيعها على سلطة هذه المحكمة في حقبة الستينيات وبالتالي لا يمكنها التراجع عن ذلك بأثر رجعي. فيما يعتبر الرأي العام الكيني أن هناك انحيازاً من المحكمة إلى الجانب الصومالي، الأمر الذي ينذر بجولة جديدة من التوترات بين البلدين خلال الفترة المقبلة.
في المقابل، رحبت الصومال بالقرار الصادر من محكمة العدل الدولية الذي أكد على استمرارية حدود الصومال البرية في الاتجاه الجنوبي الشرقي، وأبطل المزاعم الكينية بأن الصومال قد وافقت في السابق على الحدود المزعومة من جانب كينيا[3]، ودعا الرئيس الصومالي محمد عبد الله “فرماجو” كينيا إلى احترام قرار المحكمة، ووصفها بأنها فرصة جيدة للبلدين لتحسين علاقاتهما المتوترة، بالرغم من أن قرار المحكمة قد أدى إلى خسارة مقديشو جزءًا من المساحة التي كانت تطالب بها والغنية بالثروات الطبيعية لصالح كينيا، كما رفضت المحكمة طلب الصومال بالحصول على تعويضات نتيجة انتهاك كينيا للسيادة الصومالية بشكل غير قانوني خلال السنوات الماضية من خلال عمليات التنقيب عن النفط وإنفاذ القانون في المناطق المتنازع عليها[4].
وتطرح تطورات هذا الخلاف البحري الممتد بين البلدين وصولًا إلى قرار التحكيم الدولي، وما تفرضه من مخاوف بشأن توتر العلاقات بينهما خلال المرحلة المقبلة حزمة الضغوط التي يمتلكها كلا الطرفين ومن المتوقع أن يمارسها كل طرف على الآخر في سبيل تحقيق أهدافه الاستراتيجية، خاصة بعد خطاب الرئيس كينياتا أمام شعبه الذي يعكس نيته في حشد التعبئة العامة من أجل مواجهة تداعيات القرار مع الجانب الصومالي، وإن كان ذلك لا يخلو من أهداف سياسية على المستوى الداخلي الكيني في ضوء الاتهامات التي تطال كينياتا فيما يتعلق بتسريبات وثائق باندورا، ومع قرب عقد الانتخابات الرئاسية في البلاد.
إذ تمتلك كينيا نفوذًا سياسيًّا في الصومال بحيث تظل مؤثرة في المشهد السياسي الصومالي، فهي تعد بمثابة مجمع انتخابي صومالي حيث يعقد بعض المرشحين للانتخابات الصومالية اجتماعاتهم ولقاءاتهم في نيروبي، كما تحتضن بعض أعضاء المعارضة السياسية الصومالية، وغيرهم من الساسة الذين يحملون الجنسية الكينية. بالإضافة إلى الجالية الصومالية في كينيا والتي يعمل معظمها في التجارة خاصة في سوق “إسلي” في نيروبي الذي يعد من أكبر الأسواق الكينية ويطلق عليه “مقديشو الصغيرة” نظرًا لسيطرة الصوماليين عليه. وترتبط نيروبي بعلاقات قوية مع بعض الولايات الصومالية المعارضة مثل جوبالاند وبونت لاند، وهو ما يتسبب في المزيد من التوترات مع الحكومة المركزية في مقديشو خلال السنوات الأخيرة، كما يتخوف فرماجو من بعض التدخلات الكينية في الانتخابات الرئاسية المقبلة لغير صالحه. وتستضيف كينيا أيضًا بعض الهيئات والبعثات الدبلوماسية العاملة في الصومال بسبب الأوضاع الأمنية هناك. وتأوي كينيا حوالي 500 ألف صومالي في مخيمات اللاجئين. وتعزز القوات الكينية العاملة ضمن بعثة الاتحاد الأفريقي لحفظ السلام في الصومال (أميصوم) منذ فبراير 2012 والتي يبلغ عددها حوالي 4000 جندي كيني النفوذ السياسي والعسكري الكيني في الصومال باعتبارها ذراعًا سياسية وعسكرية[5].
من ناحية أخرى، يبدو موقف الصومال قويًّا بعد صدور قرار التحكيم الدولي لصالحها نتيجة لقوة حجتها من خلال مجموعة الوثائق التي قدمتها الحكومة الصومالية للمحكمة، وهو ما يضمن لها اللجوء إلى المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي للضغط على كينيا لتنفيذ قرار التحكيم الدولي. وتؤثر الصومال بشكل واضح في الاقتصاد الكيني من خلال تجارة “القات” التي تمثل رافدًا مهمًا من روافد التجارة في كينيا، حيث تصدّر حوالي 50 طنًّا من القات يوميًّا إلى الصومال بقيمة 250 ألف دولار[6]، كما يمثل ملف اللاجئين الصوماليين في نيروبي حجر زاوية في السياسة الاقتصادية الكينية التي تتلقى المساعدات من المنظمات الدولية والمنظمات الإنسانية والإغاثية في هذا الصدد، فضلاً عن وجود عدد كبير من التجار الصوماليين ضمن الجالية الصومالية التي تعيش في كينيا.
وتمثل الأوضاع الأمنية في الصومال مصدر تهديد لأمن كينيا، حيث تظل منطقة شمال شرق كينيا مهددة بشكل دائم في ضوء استهداف حركة شباب المجاهدين التي تنشط في وسط وجنوب الصومال للجنود الكينيين وقواعد تمركزهم، وتمدد نشاطها للداخل الكيني انتقامًا من التدخل العسكري الكيني في البلاد منذ عشر سنوات في أكتوبر 2011، خاصة أنها ترى أن الأراضي الصومالية تتعدى المساحة المتنازع عليها بين البلدين وتمتد إلى مقاطعة شمال شرق كينيا، مما قد ينذر بمزيد من العمليات الانتقامية في داخل الأراضي الكينية وضد القوات العسكرية العاملة في الصومال خلال المرحلة المقبلة[7].
تأثيرات متباينة
يفرض قرار محكمة العدل الدولية تداعيات عدة على الأطراف المعنية بالأزمة، وما قد تنتجه على مستقبل التفاعلات الداخلية في كل من الصومال وكينيا وانعكاسات ذلك على الصعيد الإقليمي في القرن الأفريقي بشكل عام، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:
1- الصومال: قد يمثل هذا القرار طوق نجاة بالنسبة للنظام الحاكم في الصومال بقيادة فرماجو، الذي قد يستعيد جزءًا من شعبيته المفقودة على خلفية الأزمات السياسية في البلاد، مما قد يدعم موقفه في الانتخابات الرئاسية المقبلة. ومن الناحية الاقتصادية، يمنح هذا القرار -حال تنفيذه- الصومال الاستفادة من مساحة بحرية أكبر غنية بالموارد والثروات النفطية والسمكية، مما قد يسمح لها بتوقيع عقود جديدة مع الشركات الدولية للتنقيب عن النفط والثروات الأخرى في المنطقة.
2- كينيا: يسعى كينياتا إلى إثارة الرأي العام الكيني ضد القرار بهدف تحويل الانتباه عن الإخفاق في تلك القضية، وذلك لتخفيف الضغوط على نظامه الحاكم خاصة بعد تسريبات وثائق باندورا، والتي قد تؤثر عليه سلبًا خلال الانتخابات المقبلة في البلاد. وقد تستغل كينيا عضويتها غير الدائمة في مجلس الأمن الدولي لتعطيل أي قرارات تخص هذه الأزمة خلال الفترة المقبلة. ومن المتوقع أن يؤدي هذا القرار أيضًا إلى فسخ العقود التي أبرمتها الحكومة الكينية مع الشركات الدولية بهدف استغلال ثروات المنطقة. كما تتزايد مخاوف الجالية الصومالية في كينيا من التعرض للمخاطر والعمليات الانتقامية من الكينيين مما قد يعطل المصالح التجارية بين البلدين في الفترة المقبلة.
3- منطقة القرن الأفريقي: قد تشهد المنطقة نزاعًا حدوديًّا ممتدًّا لسنوات قادمة على غرار النزاع الحدودي بين إثيوبيا وإريتريا على منطقة “بادمي” منذ عام 1998 في حال عدم تنفيذ القرار، الأمر الذي قد يعزز من زعزعة الاستقرار الإقليمي ويعصف بالتطلعات الإقليمية الخاصة بالتكامل الإقليمي في المنطقة. فضلًا عن تصاعد توتر العلاقات الثنائية بين البلدين وانعكاسات ذلك السلبية على الأوضاع الأمنية في البلدين، وتراجع الجهود الثنائية فيما يتعلق بمواجهة حركة شباب المجاهدين الصومالية، مما قد يعزز نشاط الإرهاب في القرن الأفريقي.
إجمالًا، تبدو احتمالات التصعيد بين الطرفين الصومالي والكيني قائمة خلال الفترة المقبلة، خاصة في ظل رفض الجانب الكيني لقرار محكمة العدل الدولية وإصرار الحكومة الكينية على أحقيتها بالمناطق البحرية المتنازع عليها مع الصومال، التي عزز القرار من موقفها الذي قد يشهد تصعيدًا خلال الفترة المقبلة باللجوء إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي من أجل إلزام الجانب الكيني بالحكم الصادر من التحكيم الدولي. فيما قد يلجأ الرئيس فرماجو إلى تهدئة الأجواء لحين انتهاء الانتخابات المقبلة خوفًا من التدخلات الكينية لإبعاده عن السلطة. وربما يسعى أيضًا إلى الضغط على كينياتا من أجل تنفيذ القرار من خلال حملة إقليمية يتزعمها حليفاه الإقليميان، آبي أحمد، رئيس الوزراء الإثيوبي، والرئيس الإريتري، أسياس أفورقي، وإن كان الموقف الكيني يشير إلى نسخة جديدة من الصراع الإثيوبي- الإريتري على منطقة “بادمي” الذي استمر قرابة عقدين، إلا أن الصراع العسكري يظل مستبعدًا بين البلدين في ضوء القيود العديدة الإقليمية والدولية التي تقف عائقًا أمام تحقيقه.
*عن مركز الاهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية