الانسداد السياسي في السودان كان نتيجة صحيحة وطبيعية لمسار سياسي قائم على المحاصصة السياسية.
فالشركاء المتشاكسون لا يمكنهم السير إلى نهاية الطريق المؤدية بحسب (الوثيقة الدستورية) إلى انتخابات عامة وديمقراطية مثالية كما تم وعد الشعب بها عند سقوط نظام عمر البشير.
الواقعية السياسية تأتي في مشهد السودان وقبله لبنان واليمن وغيرها من البلدان الشرق أوسطية التي اعتقدت هي أو عبر الأوصياء أن المحاصصة سبيل ممكن لتعبر الشعوب إلى الديمقراطية. المحاصصة السياسية هي اللغم المدفون في طريق الشعوب المتجه نحو حياة سياسية ديمقراطية.
وطبيعة الصراعات والتنافس السياسي لا يمكنها أن تجعل من المحاصصة نقطة ارتكاز يمكن التعويل عليها سياسياً، لبنان دفع ثمن المحاصصة، ومازال يدفعها فالحرب اللبنانية، وأن وضعت أوزارها إلا أن لبنان احتاج للمحاصصة السياسية مرة أخرى عبر اتفاق الطائف، كذلك شمال اليمن الذي عاش عقوداً طويلة في محاصصة قبلية زاوجت بين الملكية والجمهورية بعد أن تعثرت ثورة سبتمبر 1962.
“المنطق الديمقراطي” لا يمكنه قبول المحاصصة السياسية أو الطائفية أو المناطقية أو بأي تعبير ممكن أن يبررها في سياق التوازنات للحصول على توافقات وقتية تحاول تخفيف حدة النزاعات والخروج أمام الجماهير العريضة بمكاسب وقتية تتبخر مع بداية العملية السياسية، العواطف في السياسية هي بداية للعواصف والكوارث.
وعلى ذلك على الشعوب العربية أن تعي الدروس، فلبنان واليمن، وها هو السودان يحصد أبناؤه نتائج المحاصصات.
في المشهد السوداني ولادة عسيرة للدولة الوطنية التي لم يعرفها هذا البلد العريق على الرغم أنه حصل على استقلاله عام 1956، لكنه كمعظم البلاد العربية تعثر في تيارات سياسية ذات نزعات قومية، غير أن حظه العاثر أوقعه في شبكة جماعة “الإخوان” لثلاثة عقود، تم تفريغ السودان من سودانيته وتمزيق نسيجه الوطني، فتشظت البلاد، وتفككت حتى جاءت ثورة عميقة من جيل جديد يريد سوداناً جديداً.
السودان الذي صنع اللاءات العربية الثلاث في مؤتمر الخرطوم 1967 حملته أمواج الإسلام السياسي إلى أبعد نقطة عن سودانيته وعروبته فلقد شكل انقلاب 1989 متغيراً عميقاً تحولت فيه تلك البلاد لوكر من أوكار التنظيم الدولي للإخوان، بل إن الخرطوم نفسها احتضنت المؤتمر العربي الإسلامي 1991 الذي شكل تمدد القوى الإسلاموية الشيعية والسنية واعتمد آليات التنسيق بين الجماعات والتنظيمات ذات الاتجاه الإسلاموي، أبحر السودان بعيداً حتى جاءت مواكب الثوار لتعيد شيئاً من السودان.
لا يوجد خريطة طريق معتمدة يمكن الاستدلال بها أو عليها للانتقال السياسي أو بناء مجتمع سياسي جديد، لكل دولة تجربتها ولكل شعب طريقه نحو التغيير وتركيب المجتمع السياسي، من هذا يمكن للسودان أن يجتاز مرحلة ما بعد إسقاط نظام البشير بعيداً عن فكرة المحاصصة، فلا يمكن لسفينة واحدة أن يقودها ربانان، إرضاء كل الأطراف تحت شعارات العواطف الجياشة لن ينجح.
لبنان واليمن جربّا هذا السيناريو وسقطا معاً في الحروب الأهلية. الشركاء المتشاكسون في السودان عليهم الإقرار أن تأسيس عملية سياسية ديمقراطية يتطلب تنازلاتٍ حقيقية ومسؤولية جسيمة يتحملها طرف واحد.
فالبلد الذي استطاع إسقاط الديون الهائلة ونجح في العودة لمكانته الدولية قادر على أن يذهب لاستقرار سياسي من قرارات تأتي من تحت عمامة (الزول) للزول الشقيق والرفيق من دون اعتبارات لإرضاء الخارج الذي يجد في المحاصصات ما يسعفه في تسويق ديمقراطيات صورية لا تحقق شيئاً.
(الزول) غاضب وضاقت به الأرض بما رحبت لكنه قادر على أن يحمل عصاه ويمضي نحو مستقبله بطريقته هو وليس بالطريقة التي تفرض عليه.