يرى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في أفريقيا العطشى سوقا حقيقية لترويج البضائع التركية وغيرها ما يشكل متنفسا حقيقيا للشركات التركية التي تواجه أزمة حادة بسبب تدهور الوضع الاقتصادي في تركيا الناجم عن التراجع اليومي لليرة وارتفاع نسبة التضخم.
و بعث الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالعديد من الرسائل خلال جولته في دول غرب أفريقيا أبرزها أن بلاده تريد متنفسا لاقتصادها من بوابة أفريقيا حيث لم تعد أنقرة تنافس فرنسا فقط في هذه القارة لكن حتى الصين التي لها استثمارات واسعة في أفريقيا.
فتركيا التي تغرق في ديون تبلغ 251 مليار دولار وتعاني من أزمة تضخم تتجاوز الـ20 في المئة سنويا وتواجه ليرتها انخفاضا متسارعا مقابل الدولار وتصارع أزمات سياسية في الداخل وتوترات مع حلفائها الأوروبيين وخلافات مع الولايات المتحدة تبدو وكأنها قوة دولية كبرى في أفريقيا، لا تنافس مكانة فرنسا التاريخية فحسب، ولكنها تنشئ لنفسها موطئ قدم يبدو أسرع انتشارا مما حققته الصين.
ولقد عاد الرئيس التركي من أحدث زياراته إلى أفريقيا في أنغولا وتوغو ونيجيريا ليضع في سجله الخاص أنه أجرى 41 زيارة الى أفريقيا شملت 30 بلدا، وهو ما يجعله أكثر رئيس في العالم قام بهذا العدد من الزيارات لقارة واحدة.
ويتبع أردوغان “خطة عمل أفريقيا” التي وُضعت في العام 1998 وبدأ تنفيذها الفعلي في العام 2005، إلا أنها في غضون الخمس عشرة سنة الماضية رفعت حجم التجارة البينية إلى خمسة أضعاف، أي من نحو 5 مليارات دولار إلى نحو 25 مليار دولار سنويا.
وفي كل مرة كان يقوم بها أردوغان بزيارة إلى إحدى البلدان الأفريقية فإنه لا يكتفي بحمل فرص تجارية تمتد من القمح الى الأجهزة الكهربائية وصولا الى المسيرات والمدرعات، ولكنه يدعمها بسلسلة من مشاريع البناء والخدمات، ومعها اتفاقات أمنية وثقافية وتعليمية وإقامة مراكز دينية.
“الخطة” هي في الواقع خطة مشروع بديل يقوم على فكرة أن “تركيا ليست قوة استعمارية”، وأنها تستهدف التعاون على أسس الشراكة والمساواة، حتى ولو كان الميزان التجاري لا يثبت ذلك.
فكل ما قدمته تركيا في مجالات التنمية بين عامي 2009 و2019 لم يتجاوز 2.5 مليار دولار. وانتهى الباقي إلى ممارسة نوع من جديد من “الاستعمار الناعم”، والاستغلال الخفي لعطش الفقراء إلى كل الاحتياجات. أما الاستثمارات التركية في مشاريع البنية التحتية فإنها لم تتجاوز بدورها 6 مليارات دولار.
ويبدو أردوغان وكأنه يسبح في حوض سباحة فارغ من المنافسين الذين ينشغلون بشؤون أخرى. ولا تزال فرنسا، بإرثها الاستعماري البغيض في القارة، تمتلك قدرا هائلا من النفوذ إلا أنها تراقب التوسع التركي بقدر محسوس من الخشية والغيرة، وذلك لأنها ما تزال تعجز عن التقدم في أفريقيا بغير صورتها المهيمنة.
ولكنها، بالرغم من ذلك، تضع يدها على فرص الاستثمار ذات العائدية الأعلى، لاسيما في مجالات التنقيب عن النفط والغاز ومناجم الذهب والألماس في بلدان غرب القارة على وجه الخصوص، بينما يحمل أردوغان بضائع ومعدات وأسلحة من النوع الأقل كلفة، مما قد يستوجب الخشية، ولكنه لا يستوجب الغيرة.
ولئن سبق للقارة الأفريقية أن كانت محط اهتمام السعودية، إلا أن دورها التنموي تراجع مع تصاعد انشغالاتها بالحرب ضد الإرهاب اعتبارا من أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، وصولا إلى الحرب في اليمن.
وأفريقيا بثرواتها الضخمة وغير المستغلة وباحتياجاتها لكل شيء تقريبا تبدو بمثابة “بطن رخو” لتركيا حتى ولو كانت هي نفسها غارقة في الأزمات. ويعود السبب في ذلك إلى أن تركيا بلد يمكنه أن يقدم الكثير لمن لا يملكون شيئا. فصناعاتها الخفيفة والمتوسطة تبدو إغراء في متناول اليد.
كما أن العامل الديني يفتح أمامها طرقا سالكة أكثر، مما لا يمكن لأيّ من المنافسين الآخرين أن يفكروا فيه.
وكسبت مشاريع “الحزام والطريق” الصينية تعهدات من 40 دولة أفريقية من أصل 55 لتمويل وبناء طرق سريعة ومطارات وسكك حديدية حديثة وذلك على أساس قروض سخية وهو ما لا تملك تركيا أن تقدمه. فخطة أنقرة تقوم بالدرجة الأساس على تلبية الاحتياجات الأكثر توافقا مع قدراتها الإنتاجية من السلع الرخيصة والخدمات.
وبينما تستغل تركيا العامل الثقافي والعرقي في علاقاتها مع دول مثل أذربيجان وتركمانستان وأوزبكستان، فإن الإسلام يبدو بضاعة مناسبة لها في دول مثل نيجيريا والنيجر وأوغندا وجيبوتي وسيراليون وغامبيا وغينيا وتوغو والصومال وغيرها. ولدى تركيا في الصومال قاعدة عسكرية أيضا.
من جهتها لم تلتفت مصر إلى شرق القارة الأفريقية إلا مؤخرا، بعد أن تجاوزت ضائقتها الاقتصادية الخاصة، لتبدو وكأنها منافس يحاول أن يمتلك موطئ قدم، على الأقل في البلدان التي تحيط بحوض النيل.
بينما ظل الدور السعودي خافتا ومحدودا إلى درجة أنه بات غير مرئي، بعد أن تخلت الرياض عن عدد المشاريع أو تركتها دون تمويل. ما يحاول أردوغان فعله هو أنه على غرار كل الذين يعانون من أزمات في الداخل يقوم بنقلها إلى الخارج. ولكنه نقل بارد وبحدود تجارية ضيقة.
أزمة تركيا، من وجهة نظر أردوغان، ليست أزمة سياسات توسع قائمة على الاقتراض، وإنما هي أزمة أسواق، ويكفي لحلها أن يقوم بأكثر من أربعين زيارة إلى بلدان قارة. العطش التركي، الذي يحاول أردوغان أن يسقيه بالعطش الأفريقي، ليس بالضرورة حلا، لا لتركيا ولا للدول الأفريقية نفسها، لأنه يدور في الحالتين حول إمكانيات محدودة.
يقول البنك الدولي إن أفريقيا تحتاج إلى استثمارات تبلغ 170 مليار دولار في 10 سنوات لتلبية متطلبات البنية التحتية وحدها. وهذا حوض أوسع مما يمكن لأردوغان أن يسبح فيه.