الصومال اليوم

العالِم الصّوماليّ وعوامل محليّة

مشكلة المقالة:
كنت استمع ذات يوم لأحد مشاهير العلماء في العصر الحديث له انتاج كبيرٌ في عالَم التّأليف والمُحاضرات والدّروس، فأعجبتني قُوة عارضته في الطّرح، وغزارةُ معلوماته عن الموضوع ومسائِله المُتشعبة، وتضلعُه بكثير من فنون العلم ذات الصّلة بالموضوع من لغة وشعر وأدب وفقه وحديث، وقول سلف، فأوقفتُ المقطع قليلاً ريثُما أفكّر فيما قال واستجمعه في ذهني، فهيّجَ في نفسي التّفكيرُ سؤالاً طالما ساورني، يقول: ما الفرقُ بين العالِم الصوماليّ والعالِم في أيِّ مُجتمع آخر من المُجتمعات الإسلامية والعربية؟! ربما يبدو السّؤال في أول وُهلةٍ من نظر القارئ إليها غريباً، ولكن لأعُد فأقُلْ بتعبيرٍ آخر: “لماذا لم يتجاوز عِلمُ العالِم الصّوماليّ عَتبةَ الصّومال، ولم يتعدَّ حدوده الى الملايين المُسلمة في العالم، مثلما نستفيد نحن من عشرات بل مئات العُلماء المرموقين والدّعاة المشهورين في العالَم الإسلامي؟”!

ومُحاولةً للبحث عن الجواب أشير الى أبرز المُؤثرات التي تُحدد انتشار علم الشّيخ الصومالي، وتُقلّصُ دوره في العالَم ككلّ، لا في هذا الجزء الصّغير من العالم (الصّومال) الذي يُشكّل نقطةً في بحرٍ إذا ما قُورِن بهذا العالَم الأفيح، ولأيّ منّا يجد في نفسه الإقبالَ على هذا المجال أن يُلقي دلوه ويأخذ دوره في تحليل هذا الواقع، وكسر هذا الحاجز العائق.

إعتذار:
معاذ اللهِ مِن أن يُفهم من هذا المقال أنّني انتقص حقّ أهل العلم، وأحطّ من منزلتهم، فليس لعاقل أن يتجرأ على الله بأذية أوليائه وأهل كرامته، ومَن أنا حتى أعترض على العُلماء أو أستدرك على مذهبهم، وإنّما المقصود إثارة تساؤلات حول الموضوع، والقيامُ بمُراجعات جادّة في تخريج العالِم الصّومالي لا على مستوى الصّومال فقط، بل على مستوى العالم أجمع. وشبابُ الدّعوة وطُلاب الصّحوة وإن كانوا اليوم صِغار قوم فهم غداً كِبارهم، فمن الآن فليستعدّوا.

خِصابة الأراضي الصّومالية

والتُّربةُ الصّومالية لنقائها وصفاء قريحة أهلها، ثرِيّةٌ بنَجابة النّتاج إن أُحْسِن استقلالُها، فقد أخرجت للعالَم عبر العُصور علماءَ كِباراً، أمثال الحافظ الزّيلعي صاحب نصب الرّاية في تخريج أحاديث الهداية، ومن أواخرهم العلّامة المُحدث محمد بن عبدالله الصّومالي شيخُ كثيرٍ من أئمة العلم والفتوى في الجزيرة العربية، والذي جلس لتدريس حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحرم المكيّ قُرابة خمسين سنةً، يختلف إليه عامّة عُلماء العصر المشهورين. ونأمُل أن تُنبت هذه التّربة للأمّة أجيالا من العُلماء لهم دورهم في السّاحة العالمية، وما ذلك على الله بمُستكثر.
صحيحٌ أنّ المُجتمع الصّومالي نجح بريادة عُلمائه في كثير من النواحي، منها التكافل الاجتماعي، وحفظ الهوية الإسلامية والثقافة الصّومالية على الرُّغم من توالي العواصف الرّامية الى القضاء على ذلك، والظروفِ الصّعبةِ التي شهدها الصّوماليون في العُقود الأخيرة، وأمّا أن يعتبر المُجتمع العلميُّ الصّومالي نفسه جزءاً من العالم، وخاصة الإسلاميّ والعربيّ منه، يتفاعل معه بالأخذ والعطاء، ويلعب دوراً في تأثيره، ويحرز مكانه المُناسبَ لعراقته الإسلامية ولِمَركزِيّته الاستراتيجية فلَا، بل انحصر دورُنا في دائرة الاستهلاك، -واليد العُليا خيرٌ من اليد السّفلى- وهذا ما نصبو إلى تشخيص عوامله في تدوين هذه الأحرف.

مؤثرات العالِم الصّوماليّ في محليّة علمه

محلية التفكير تبعاً للّغة، على بُعد المسافة يكون الاستعداد وأخذُ الزّاد، وعلى قدر المسؤولية يكون الاجتهاد، فالعالِم الصّوماليّ من بداية تكوّنه وتأهيل نفسه للخوض في غِمار الدّعوة والاصلاح، وحمل أعباء الرّسالة لا يُفكر في أمر الاصلاح الا تفكيراً مَحلياً لا يعدو أبناء لُغته مع عالميّة رسالته، وعسى ذلك ظنّاً منه بأنّ العالَم في غِنىً عن علمه وعقله، وليس كذلك فهذا هو الشّيخ شريف عبدالنّور رحمه الله في حياته بالسّعودية مع ضعف قُوته وتدني صحته تتلمذ عليه طُلابٌ عربٌ أخذوا عنه أُمهات كُتب الحديث والسّنة، وبعض كُتب الأدب واللغة، بل كانت تُراسله المُقامة الفلسطينية بتوصيف حالهم ووضعهم، فيُفتيهم ويُرشدهم.

فلو رام العالِم الصّومالي أن يلعب دورا خارج حدود بلده لاستأهل واستطاع ذلك، يُروى عن الحسن البصريّ رحمه الله: “من استطاع منكم أن يكون إماماً لِحَيِّه، إماماً لما وراء ذلك فليفعل فإنه ليس شيءٌ يؤخذ عنك إلا كان لك فيه نصيبٌ”.

الثقافة الشّفهية، للخلفية الثّقافية تسلُّطها على الإنسان، وقوّة تأثيرها فيه، والثّقافةُ الصّومالية ثقافة شفهيةٌ تعتمد في نقل أخبارها ورواية أشعارها، وذكر مآثرها على الحفظ والرّواية اللّفظية، لا على الكتابة والتّدوين، والعُلماء والمُثقفون في الصّومال لم يمتهنوا بعد صناعة الكتابة، ولهذا تجد العالِم الصّومالي الذي له المئات من الدروس الصّوتية المُسجلة لا يحتفل بتأليف جزءٍ لطيف يُخلّد فيه علمه للأجيال والأمم. والتأليف من أوسع قنوات التّواصل بين مجتمعات العالم. كما أنّ الكتابة صناعة، والمجتمع الصّوماليّ بطبعه يأنف من بعض الحرف اليدوية كالحِدادة ونحوها.

ظروف المُجتمع الصّوماليّ المُحيط بالشّيخ، حيث يُثقل على كاهِله كثيراً من مشاكله التي يُفارقها في المُجتمعات الأخرى، وللدور المِحوري للشيخ الصّومال في مُجتمعه، فهو كل شيء لشعبه يُعلّمه ويُسعفه في أزماته، ويُصالح بينه في مُنازعاته، ويعمل في شؤونه العلميّة والاجتماعية والسّياسية والأسرية والنّضالية، يقول البرفسور حسن مكيّ: “من أجل المركز الاجتماعي الذي يحظى به رجلُ الدّين عادة في الصّومال كانت معظم الثّورات في البلد ذات صبغة دينية يقوده العلماء” في حينٍ أنّ العالِمَ والمُثقفَ في المجمعات الأخرى يعيش غالباً في مجتمع مُتماسكٍ اجتماعياً، واعٍ سياسياً مترابطٍ أُسرياً مُستقِرٍ أمنيّاً، غاية ما في أمرهم أنّهم يحتاجون من الشّيخ إلى حكم الشّرع في المسألة فحسب، وهذا بدروه شَتت هَمّ الشّيخ، وفرَّقّ تركيزه، وأقحمه في بحر من العمل لا ساحل له، لعلاج الأوبية الاجتماعية في مجتمعه، فهو يقوم بدور عدّة وزارات وأزيد من ذلك بكثير.

ثقافة الشّعب الفُضولية، ليس بين العالم والشّعب في المُجتمع الصّومالي أيُّ حاجز، يلقاه حيث يشاء ويدخل عليه متى شاء، ويستغرق من وقته في الحديث معه ما شاء، وليس هناك إجراءات وبرتكولات يجب اتخاذها للّقاء مع الشّيخ، ولا أقول ليَحتجبْ العالِم دون النّاس، كلّا، وكيف يُرجى لمريضٍ الشّفاءُ اذا احتجب عنه الطّبيبُ، ولم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم حاجبٌ، ولكن على قدرٍ -وقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا- لا يُلخبط عليه الأوراق، ولا يُعيقه عن مشاريعه العلمية والأدبية والكتابية، وليكن لِحياةِ العالم اليومية من العُزلة نصيب، فالفكر ينمو بالتّفرغ والتّأمل، ويشرد بالاختلاط.
عامل اللّغة، اللغة الصّومالية هي لغة التّدريس عند المشايخ الصّوماليين في شتى مُستويات طلبتهم، مع أنّ الطّالب الصّومالي لا يُعالج أيّ شدّة، ولا يلقى أيّ عناء في تعلّم العربية واستخدامها في المُخاطبة والمُراسلة والمُكاتبة، -إن أُحسِن تعليمه إيّاها- بحكم تلقين القرآن الكريم والتّعليم الدّيني للأطفال في الكتاتيب وهم في سن الصّغر، علاوةً على هذا فإنّ اللغة الصّومالية كانت مكتوبةً بالهجاء العربي ما قبل عام 1973 إلى قرون طويلة تمتدّ إلى اعتناق هذا الشّعب لدين الإسلام، بل كانت اللّغة العربية قبل الاستعمار لغة التعليم والقضاء والمراسلات في الصّومال، كما أنّ الصومالية قريبة من العربية في كثير من الكلمات. إلا أنّ علمائنا لم يتكلفوا عبر تاريخهم التّدريسي الطّويل في تعريب تدريس العلم الشّرعي في البلاد، الأمر الذي جعل نتاجهم العلمي محليّاً محصورا على طلبتهم الصّوماليين، وبذلك حُرمت الأمة المسلمة والعربية من الانتفاع بالعلم الصومالي و العقول التي أنتجها هذا القُطر الإسلامي الزاخر عبر تاريخه بعلماء كبار ودُعاة لهم موفور النصيب في تكوين المراكز الإسلامية في الغرب، وحماية هُويّة الجاليات المسلمة ونشر القيم الغسلامية في تلك البلدان، يقول الدّكتور عُمر إيمان: “فلو أنّ شيوخ الصّومال يتحدثون باللغة العربية، ويُدرِّسون بها الكُتب لكان لهم شأنٌ في العالم الإسلامي، ولَكُنّا نحن والموريتانيون كفرسي رهان في نشر العلم في أفريقيا، فنحنُ في شرقيها، وهم في غربيها، ولكن قدّر الله أن تكون العُجمة من نصيبنا، والعربية من نصيبهم”.
وليس مرادي في هذه المَقالة أن أحكّ جُروحاً، أو أعكّر شعوراً، أو أُعِضَّ هادئاً على يده ندَماً، فليهنأْ العلماءُ نفساً، وليستريحوا قلباً، وليستبشروا بعظيم الأجر وجزيل الثّواب ممّا قدّموه لأمّتهم، وليجنوا ثمار ما غرزوه -في كفاحهم الطّويل وجهادهم المرير- يانعاً، وليشهد الثّقلان شهادةً مؤكدّة بأنّهم أدّوا واجبهم بكفاءة واقتدار.

وإنّما المسؤولية مُلقاة على كاهل الجيل الصّاعد، والمقال مُوجّه إليهم، والمُراجعة واجبة عليهم، والأمّة المُسلمة تنتظر منهم.

والله حسبي ونعم الوكيل.

Exit mobile version