الصومال اليوم

هل ستضرب العصا الأوربية تركيا العصية؟

تعد العقوبات الاقتصادية إحدى أدوات السياسة الاقتصادية الدولية، وأحد أهم أنواع السياسات الفاعلة التي تلجأ إليها الدول والمنظمات الدولية، التي تندرج في إطار السياسات الدولية الردعية، الهادفة إلى تحقيق أهداف إستراتيجية سياسية واقتصادية واجتماعية معينة.

وشهدت العقود الستة الأخيرة الممارسات المختلفة التي باشرها مجلس الأمن ضد روديسيا والبرتغال وجنوب إفريقيا في ستينات وسبعينات القرن الماضي، ردا على الانتهاكات الجسمية للقانون الدولي بشكل عام من هذه الدول، ثم توسع لاحقا في ذلك النهج العقابي ضد عدد كبير من الدول منذ سقوط الاتحاد السوفيتي واستشراء الحروب الأهلية كالنار في الهشيم في دول عديدة، في صدارتها دول إفريقية مثل الصومال وسيراليون ورواندا وليبريا وليبيا وغيرها، في محاولة حثيثة من مجلس الأمن لإنهاء هذه الصراعات المسلحة المتفاقمة.

وتعد العقوبات الاقتصادية أكثر أساليب الردع انتشارا وتأثيرا في العلاقات الدولية المعاصرة، حيث تمثل علاجا صامتا وقاتلا في الوقت نفسه بوسائل أقل عنفا، كما أثبتت التجربة أنها المعادل الاقتصادي لما يسمى في الحروب بالقصف الشامل، وهي من الأساليب التي انتهجتها كل من المنظمات الدولية والدول أثناء الحرب الباردة وازداد استعمالها أكثر مع نهاية الحرب الباردة، حيث فرضتها الأمم المتحدة مرتين فقط، ضد روديسيا عام 1966، وجنوب إفريقيا عام 1977، ليتصاعد استخدامها كإستراتيجية متكررة ابتداء من 1990 من خلال فرضها من قبل الأمم المتحدة أكثر من 12 مرة خلال الفترة بين عامي 1990 و2002، فضلا عن أن الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة فرضت العقوبات الاقتصادية سواء الانفرادية والثنائية والإقليمية.

جلي أن العقوبات الاقتصادية إجراء اقتصادي يهدف إلى التأثير على إرادة دولة لحثها على احترام قواعد القانون الدولي، وأن العقوبات الاقتصادية لا تستهدف حفظ وحماية القانون، لكن حفظ وحماية السلام الذي لا يتفق بالضرورة في كل الأحوال مع القانون، لذا فإن العقوبة الاقتصادية هي وسيلة ضغط إيجابية أو سلبية، تهدف إلى تغيير السلوك السياسي للدولة المعاقبة، وهذه العقوبة يمكن أن تتدرج من التهديد البسيط إلى مقاطعة كلية أو شاملة للعلاقات الاقتصادية بين المعاقِب والمستهدَف.

تيقنت الأمم المتحدة أن الشعوب هي التي صارت ضحايا هذه الانتهاكات وليست الأنظمة السياسية، بل إن قادة هذه الدول وفي حالات عديدة انتفعوا بتأليب الشعوب المكلومة بنار العقوبات على “الآخر” الذي فرض هذه العقوبات، ومن ثم تصدح أبواق النظم الاستبدادية بالخطابات “الجوبلزية” والدعايات التحريضية المجندة للاصطفاف حول القيادة التي أوقعت شعبها في فخ العقوبات الدولية الشديدة.

وكان الدرس العراقي بعد حرب الخليج 1990-1991 مريرا، فكانت التداعيات السلبية الكارثية علي الشعب العراقي مدعاة لأن تقوم الأمم المتحدة باستلهام الدروس والعبر، فابتدعت المنظمة الأممية الآلية الجديدة للعقوبات الاقتصادية التي عرفت بالعقوبات الذكية.

لجأت كل من الدول فرادى أو تكتلات، إضافة إلى المنظمات الدولية، إلى فرض العقوبات الاقتصادية على الدول التي تنتهك مبادئ القانون الدولي، ورغم تعدد الأهداف التي تسعى من خلالها الدول التي تلجأ لفرض العقوبات، فإن الباعث الرئيسي من استخدام هذه الآلية هو ردع وإجبار الدولة المستهدَفة بالعقوبات إلى العودة إلى جادة الصواب، وانتهاج النهج القانوني الصحيح في علاقاتها الدولية، وردعها عن التمادي في إلحاق الضرر بغيرها من الدول والشعوب.

وبات الرئيس التركي أردوغان يمثل كابوسا مزعجا للجماعة الدولية، وصار عبئا للشركاء والأصدقاء والأعداء سويا دون استثناء، وصار المسلسل التركي السمج في شرق البحر المتوسط يقض مضاجع الدول الجيران في بحر إيجة والبحر المتوسط، ولم يجد السلطان التركي دولة واحدة في العالم تؤيد سياساته الخارجية التي دشنتها دبلوماسية البوارج الحربية في الأعوام الأخيرة، ولم تساند فكره المنعزل حول التفسير التركي الشاذ لقانون البحار دولة واحدة، فما طبقته تركيا في البحر الأسود تراجعت عنه في البحر المتوسط وبحر إيجة أيضا، في نهج منعزل غير مسبوق.

سبق أن وافق الاتحاد الأوربي على طلب قبرص فرض عقوبات على بعض الأشخاص والشركات التركية على خلفية دورهم في عمليات التنقيب التي تجريها أنقرة في المياه الاقتصادية الخالصة لقبرص، لكن الاتحاد الأوروبي يدرس جديا فرض العقوبات الجديدة بعد إخفاق جهود الوساطة الألمانية، وعدم نجاعة العقوبات التي فرضها سابقا الاتحاد الأوربي بناء على طلب الحكومة القبرصية، وفي ضوء عدم انصياع أنقرة للمناشدات التي تطالبها بوقف أعمال التنقيب المنافية لقانون البحار.

أطلق الاتحاد الأوربي يوم الجمعة 28 أغسطس وعيده الشديد ضد تركيا إن لم تمتثل للحوار والكف عن مغامراتها التوسعية في شرق المتوسط، وتهديداتها المتكررة لجيرانها في هذه البقعة الجغرافية التي أضحت بفعل الفاعل التركي حامية الوطيس وأكثر المناطق الجغرافية هشاشة، فلوح الاتحاد على لسان مسؤول السياسة الخارجية جوزيب بوريل بقائمة عقوبات محتملة ضد تركيا، تشمل السفن أو غيرها من الأصول المستخدمة في عمليات التنقيب، وحظر استخدام موانئ ومعدات الاتحاد الأوروبي، وفرض قيود على البنية التحتية المالية والاقتصادية المرتبطة بهذه الأنشطة.

لا ريب أن الاتحاد الأوربي يهدف من وراء ذلك إلى ممارسة وسائل الضغط المستخدمة دوليا، من أجل إخضاع تركيا لمبادئ القانون الدولي والكف عن ممارسة سياسة الهيمنة والتوسع والتعدي على حقوق الدول والشعوب، بعدما دفعت تركيا تارة بنظرية “المجال الحيوي”، وتارة أخري بحالة “الضرورة” لتبرير أفعالها المنتهكة لأي منطق، والمعتدية على كافة المبادئ والقوانين والأعراف الدولية.

يظن البعض أن المغامرات السياسية “الأردوغانية” الخارجية، فضلا عن الخروق الحقوقية الداخلية، هي في منأى عن تردي الأداء الاقتصادي والمالي التركيين، فانخراط الرئيس التركي في أتون الحرب الليبية، وتخندقه في المعسكر المعارض لموسكو وطهران في سوريا، وإزعاج حلفائه الأميركيين في جبهات عديدة، والتصرف الأرعن في البحر المتوسط للفرقاطات التركية تجاه السفن الفرنسية، كاد أن يشق الصف الأطلسي، مما دفع بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للحديث عن “موت دماغي” لحلف الناتو، وبذلك تحولت إستراتيجية “صفر مشاكل مع الجيران” التي تبناها حزب العدالة والتنمية الحاكم في بداية الألفية الحالية إلى “مشاكل شاملة مع كل الجيران”، فصارت التصرفات التركية الخرقاء لا تنتج إلا أصفارا في الخزانة والاقتصاد التركيين في السنوات الأخيرة.

وختاما، آن الأوان للرئيس التركي أن يحتكم لمنطق الأمور، ويعيد حساباته العَجِلة، ويستلهم العبر من الطغاة العتاة الذين انحرفوا عن جادة الصواب، وألحقوا بدولهم وشعوبهم الردى والوبال والهلاك.

Exit mobile version