الموارد الاقتصادية والسعي لتوفير المال والغذاء هما الهم الأكبر لجميع شعوب العالم منذ نشأة الخليقة؛ فجميع الحروب والصراعات والحركات الاستعمارية منشأها حروب اقتصادية، قد يتصارع فيها طرفان قويان على الاستحواذ على أكبر قدر من الموارد، حتى يؤمِّن التفوق على الطرف الآخر؛ ليأمن غدره. وفي تلك الحالة، تصير جذوة الصراع طاحنة لكلا الطرفين.
ولعل أشهر الأمثلة على ذلك في العالم القديم الحروب المتتالية والدائمة بين فرنسا وبريطانيا، التي انتهت بانزواء فرنسا كقوة عظمى بعد أن أنهكتها بريطانيا، التي تفوقت عليها، وصارت كيانا اقتصاديا عالميا مهيبا. أما الحرب العالمية الأولى والثانية، فكان من أهم أسباب قيامهما، تقليم أظافر ألمانيا، التي حاولت الاستحواذ على قارة أوروبا بغرض الزعامة، وما ساعدها في مخططتها مواردها الاقتصادية التي أعطت المناخ الصحي لذكاء شعبها أن ينمو في جميع المجالات بلا استثناء، خاصة في مجال التقدم العلمي.
وبينما كانت القوى العظمى تُصارع بعضها، أدركت وجوب الارتكان إلى معين لا ينضب من الموارد، يكون لها ظهيراً في الصراعات، فلو لم تكن بريطانيا العظمى سيدة البحار، وأدركت تعاظم قوة الصين الاقتصادية، التي جعلت منها أغنى دولة في العالم، لما تغلغلت بريطانيا في آسيا ونهبت مواردها، بعد أن خربت الصين. ولذلك، لا عجب في أن ساعدتها فرنسا خصمها اللدود في شن حرب شعواء على الصين في حرب الأفيون الثانية عام 1842، ثم ساعدتهما الولايات المتحدة التي كانت تسعى حينئذٍ لترسيخ كيانها الاقتصادي ونفوذها السياسي. أما المنتصر الأكبر فكان بريطانيا التي صار استحواذها على الصين نقطة انطلاق تقربها من مستعمرتها الجديدة، أستراليا التي بمجرد أن اكتشفها كابتن كوك عام 1770 حتى أعلنها مستعمرة بريطانية، وتم الاستحواذ الاستعماري الكامل عليها عام 1788، وعلى هذا صارت بريطانيا الامبراطورية الأعظم والأطول حكما في التاريخ. ومع كل هذا، ظلت هناك كعكة دسمة لم تستطع أي دولة استعمارية ابتلاعها بأكملها حتى الآن؛ حيث ثبت على مرّ العصور حتمية تقاسم الكعكة. ولا عجب في أن تلك الكعكة الكبيرة الدسمة هي افريقيا، التي كانت ولا تزال أغنى قارات العالم من ناحية الموارد، وأكثر قارات العالم جهلا وفقرا؛ بسبب أن يد المستعمر حتى بعد حركات التحرير المزعومة لا تنفك عن التلاعب بها والاستحواذ عليها، لإبقائها في غياهب الفقر والدمار. ولكل دولة في قارة افريقيا حكاية شيِّقة تستحق إلقاء الضوء عليها، وفي الصدارة الدول التي كانت تتمتع بالعزة والبهاء، ثم انحدرت لأقل المستويات، ولعل دولة الصومال خير مثال على ذلك، فأرض الصومال المترامية الأطراف، الواقعة على القرن الافريقي كانت من أغنى الأراضي، التي يعتقد أنها بلاد بونت، التي أرسلت لها الملكة المصرية القديمة حتشبسوت البعثات التجارية، وقامت بالتجارة معها في أقدم شكل من أشكال التجارة في العالم. وكما دُوِّن على جدران المعابد المصرية القديمة، كانت أرض الصومال غنية بالبهارات والذهب، بل كانت مركزا لتجارته حتى استعمارها، وبسبب موقعها الجغرافي المتميز، كونت أرض الصومال – التي كانت تسكنها عشائر قوية – علاقات تجارية مع الهند وبلاد العرب واليونان والامبراطورية الرومانية، وكانت من أهم محطات طريق الحرير، بل عرفت التحالفات السياسية والاقتصادية. ولم يمنع انقسام الأرض الصومالية لعشائر أن يجتمع أبناء الأرض للدفاع عن مصالحهم المشتركة، مثل عشيرة الماكروبيون، الذين وصفهم المؤرخون بأقوى رجال الأرض – لطولهم وبنيتهم القوية – وأكثرهم بهاء.
ومن أشهر الممالك في أرض الصومال كانت سلطنة «عدل»، التي كان قائدها الإمام أحمد بن إبراهيم الغازي الملقَّب بـ»الفاتح» الذي كانت له صولات في الدفاع عن أرضه ضد الغزاة، خاصة ضد جيرانه الجائرين في الحبشة، الذين استنجدوا بالقائد البرتغالي الشهير كريستوفو دي جاما، الذي وصف بأشجع فرسان ذلك العصر، لكن استطاع السلطان أحمد الغازي هزيمته وأسره، وصد عدوان الحبشة لقرون طويلة. ويُشاع أن تلك الحرب أصّلت العداء المستحكم بين البلدين حتى الآن. وعندما حصل العدوان الإنكليزي والإيطالي والفرنسي، على أرض الصومال استطاعت سلطنة «عدل» وسلطنة «جلدي» وبعدها سلطنة «الدراويش» التصدي ببسالة للمستعمر وهزيمتة على مدار سنوات، إلى أن تمكنت بريطانيا من هزيمة سلطنة الدراويش عام 1920 بعد أن قصفتها بالطائرات، تصميم الدول المستعمرة على الاستحواذ على الصومال هو أكبر دليل قطعي على ثراء الصومال بالموارد، التي نهلت منها بريطانيا وإيطاليا حتى جرَّفوها، أما فرنسا فقد استقطعت من أرض الصومال البقعة الاستراتيجية المطلَّة على مضيق باب المندب، الذي كان يعد شريان الحركة التجارية العالمية. ومع حركات الاستقلال في الصومال، شجعت فرنسا تلك البقعة على الاستقلال تحت اسم دولة «جيبوتي»، التي اختير رئيسها رجل فرنسا في افريقيا، وهو الحقوقي الذي مرر الاستفتاء الذي يشجع على الانفصال. ولم تترك قوى الاحتلال الإيطالي والإنكليزي الصومال إلا بعد تأكدها بأنها قد سلمتها لاحتلال أعتى وأشد، قوامه الديكتاتوريات العسكرية التي تعودت على نهب موارد البلاد، وعملت على تخريب ما تبقى من تلك الأرض التي كانت ذات تاريخ مشرف، وكأنها خليفة المستعمر. وبسبب الانقلابات والتناحر في ما بين العشائر في الصومال، تفشَّت الحروب الأهلية والحركات الإرهابية، إلى أن انقسمت الصومال لثلاثة أجزاء، وانتشرت المجاعات. وأخيرا، تحولت الصومال لدولة فاشلة لا تستطيع النهوض مرة أخرى، حتى أن من يمد لها يد العون ظاهريا من الدول المتقدمة، في الواقع هو يحاول استغلال ما تبقى فيها من أشلاء الخيرات. ولعل أكبر فضيحة كانت إرسال دول العالم الأول أغذية ملوثة بالإشعاع لأهالي الصومال وقت المجاعة، مع مقايضة كل الأغذية الفاسدة والمساعدات المالية الواهية بالمحاصيل، والمواد الخام الغالية النادرة، أو اشترتها بأسعار بخسة.
ومن الملاحظ حاليا أن افريقيا تحولت مرة أخرى إلى محط اهتمام الدول القوية، بل صارت ساحة التكتلات والحروب الباردة بين الدول العظمى، التي يعاني اقتصادها من خسائر فادحة. وبإيعاز منهم، بات حكام الدول الافريقية الهشة يحاربون أبناء الشعب عوضا عنهم، ويغترفون من موارهم الثمينة ويعطونها للمستعمر في ثوبه الجديد، حيث يزعم أنه قادم لتنفيذ مشروعات كبرى تضع الدول الافريقية على خريطة التقدم والازدهار في الألفية الثالثة. ولمعرفة الدول التي سوف يصيبها الدور قريبا لتتحول لصومال جديدة، يجب تتبع حركة الاستثمارات في افريقيا وما يلازمها من اندلاع صراعات عرقية شعواء بين المواطنين، لتفتيت عضد الدولة وتجسيد الملجأ الوحيد الآمن في صورة «المستثمر»، أو بالأحرى «المستعمر».
*كاتبة مصرية