الانسحاب الأميركي من الصومال وأفغانستان “فتّش عن الخراب”
أخلت الولايات المتحدة معظم قواعدها العسكرية في أفغانستان، معلنة انسحاباً كاملاً بعد نحو عقدين من الصراع العسكري لإنهاء وجود حركة طالبان، ودفنت وراءها أسرار هذه الحرب، بعد أن أحرقت قاعدة باغرام سراً وتحت جنح الظلام، كبرى المعاقل العسكرية الأميركية في أفغانستان.
انسحاب أميركي بطعم الهزيمة بعد عقود من حربٍ مفتوحة مع تنظيم القاعدة وحركة طالبان، لكن سياسة الانسحاب التي يروّجها الرئيس بايدن وسلفه ترامب، تأتي في إطار ما يسمّى “إنقاذ الأرواح”.
أزهقت الحرب أرواحاً وأراقت دماء أفغانية بريئة، ولا تزال الدماء تسيل يومياً في المشهد الأفغاني، بسبب هجمات “طالبان” على كبرى مدن البلاد طولاً وعرضاً، فضلاً عن مخاوف من انتشار مليشيات مسلحة مجدّداً لصد هذه الهجمات.
ويعيد المشهد ذاته الذاكرة إلى الانسحاب الأميركي من الصومال عام 1994، عندما فشل تدخل الولايات المتحدة الإنساني بغطاء عسكري تحت شعار “إعادة الأمل”، فصارت خطّة إنقاذ الأرواح، حسب زعم واشنطن، كابوسا وسياسة استعمارية أميركية جديدة لدى الصوماليين، فثارت الحناجر ضدّها وأسقطت الأبنية على رؤس ساكنيها، لينتهي التدخل الأميركي بعد معركة “الصقر الأسود” في مقديشو في أكتوبر/ تشرين الأول عام 1993 التي ترجمت لاحقاً إلى أعمال سينمائية لتجميل صورة مشوّهة وملطخة بدماء الأبرياء.
ثمّة سماتٌ مشتركة بين البلدين، من حيث الجغرافيا السياسية، فكلاهما عانى من بطش أنظمة الشيوعية الدكتاتورية، ففي الصومال استمر حكم الانقلاب العسكري 20 عاماً تحت حكم محمد سياد بري.
وفي أفغانستان حكم الدكتاتوريون الشيوعيون، ما جعل البلدين ساحة للحرب الباردة بين السوفييت (حلف وارسو) والولايات المتحدة الأميركية (حلف شمال الأطلسي)، ووظفت واشنطن سياسة مستشار الأمن القومي، زبيغنيو بريجنسكي لدى جيمي كارتر (1977-1981) مع دول عربية في مكافحة أنظمة الدولتين، وخصوصا النظام الأفغاني الموالي للسوفييت، ومنها مصر والسعودية، ولعبت الأخيرة دوراً كبيراً في إطاحة نظامي كابول ومقديشو بالتعاون مع الولايات المتحدة.
كما أن نسب الفقر وتفشي الأمية وإدمان المخدرات متفشية في أوساط المجتمعين، ناهيك عن انتشار المليشيات المسلحة القبلية والمناطقية والتيارات الدينية ذات الطابع الدموي، والتي تمثل “طالبان” واجهة لهذا التيار، وتمثل شبكة القاعدة التي تنامت في بيئتها وجبالها المصدر الرئيس لانتشار الجماعات الراديكالية في الصومال منذ مطلع نهاية التسعينيات.
بعد هزيمة السوفييت في أفغانستان 1989، واحتفلت واشنطن مع حلفائها التقليديين في الشرق الأوسط بنشوة الانتصار على غريمها وخصمها الاستراتيجي، اندلعت في أعقابها الحرب الأهلية بين الأفغانيين عام 1992، وبات الصراع بين التيارات المسلحة ذات الطابع الجهادي أعنف من الحرب التي أطاحت السوفييت، وتمكّنت جماعة طالبان من حسم الصراع لصالحها، وسقطت بيدها أفغانستان بحيازتها العاصمة كابول عام 1996، وتحولت مركزاً لتنظيم القاعدة بقيادة أسامة بن لادن، لكن حكم الإسلاميين فيها لم يدم طويلاً بعد الهجوم على الولايات المتحدة عام 2001، وأصبحتا، كابول ومقديشو، تحت عين العاصفة الأميركية من جديد، إما بالحرب المباشرة على “طالبان” عبر قوات دولية بقيادة واشنطن، أو بالوكالة (Proxy War) من خلال أذرعها الإقليمية في القرن الأفريقي، لاستهداف موالين وتيارات ذات صلة بالقاعدة في الصومال، وهو ما أدّى إلى ظهور أمراء الحرب (تحالف محاربة ما يسمّى “الإرهاب”) في مقديشو عام 2005، لتتحوّل هذه الحرب ضد “القاعدة” و”طالبان” حرباً عالمية، قالها جورج بوش الابن يومها كلمته المشهورة “إما أن تكون معنا أو مع الإرهاب”.
لكن أمراء الحرب في الصومال انهزموا أمام مقاتلي شباب المحاكم الإسلامية، وأصبح أعداء واشنطن ينتشرون في جنوب الصومال بسقوط المدن الكبيرة تلو الأخرى في قبضتهم، وباتوا يشتركون في نظيرتها الأفغانية (طالبان) صفات كثيرة، في السيطرة والاستحواذ والتوسّع التدريجي، لكن حكم التيارات الدينية العنيفة لا يتمتع بصيرة البقاء، وإن عمرت سنوات، بقدر ما هو ثورة طائشة تفتقر لمنهجيات وأسس بناء الدولة وإمكانات بقائها، وهو ما أدّى إلى تراجع مكانة أنصار “القاعدة” و”طالبان” في كل من الصومال وأفغانستان، ولا تزال تلك الحركات تعاني من الانفصام والانقسامات العريضة في صفوفها عمودياً وأفقياً.
انسحبت أميركا من مقديشو عام 1994، تاركة وراءها إرثاً ثقيلاً من الجروح في أجساد الصوماليين، وهي جروحٌ لم تنكأ بعد، وبقيت بصمة غدر أميركية طبعت على أجسادهم الهزيلة غصباً عنهم، لكنها تركت أيضاً خدوشا مشوّهة على جبينها وصورتها دولة قوية عسكرياً وتكنولوجياً، لكن انسحابها من الصومال لم يكن استسلاماً للهزيمة، بل لتقليل خسائرها في الأرواح والمعدّات، وواصلت حربها من خلال استخدام وكلاء محليين وإقليميين لتنفيذ أجنداتها، وهو ما قوّض جزءاً من جهود بناء الدولة في الصومال، ويبدو هذا السيناريو سينطبق تماماً على أفغانستان بعد عقدين من وجودٍ أميركي لم يورّث الأفغانيين نظام حكم ديمقراطي، بل نظام مهلهل يبدو وكأنه ينهار دفعة واحدة كأحجار الدومينو أمام تمدد “طالبان” في البلاد، بحكم سيطرتهم على 60% من جغرافيا البلاد، وهو ما يعني أن واشنطن لم تترك لحلفائها المحليين سوى وعود فارغة.
ولعل استراتيجية الانسحاب من أفغانستان أرادت واشنطن من خلالها معاقبة خصومها وإجبارهم على دفع تكلفة الفراغ الأمني الذي سيُحدثه الانسحاب الأميركي من منطقةٍ أشبه ببركان نشط لا تخمد نيرانه بسهولة، وهو ما يثقل كاهل إيران لتأمين حدودها من نشاط جماعات مسلحة سنية، ناهيك عن الصين التي ستواجه تحدّيات في تأمين “طريق الحرير”، وسرعان ما بدأت بكّين التحرّك لاحتضان “طالبان”، من أجل الحفاظ على مصالحها في المنطقة، وهو تحرّك جسده لقاء جمع بين وزير الخارجية الصيني وانغ يي ووفد من “طالبان”، واعترفت به الصين بالدور السياسي للحركة ونفوذها العسكري في أفغانستان، ما يوحي بأن بكين تعترف ضمنياً بحركة طالبان قوة سياسية فاعلة، وربما التنسيق معها مباشرة لاحقاً فيما يتعلق بتنفيذ أجنداتها السياسية والاقتصادية في منطقةٍ مليئةٍ بالتحدّيات السياسية والأمنية، بحكم صراع العمالقة فيها من كل حدب وصوب.
التحدّيات الماثلة حالياً بالنسبة لنظام كابول تتمثل في مرحلة ما بعد انسحاب القوات الأجنبية وفي مقدمتها أميركا نهاية أغسطس/ آب الجاري، وهل ستقدر القوات الأفغانية وحدها على صدّ هجمات حركة طالبان التي تقصف المدن والمطارات بشكل شبه يومي، أم ستكرّر “طالبان” مجدّداً مشهد احتفالات النصر في كابول عام 1996، وهذا مرهونٌ بمدى تقاعس أميركا في دعم حلفائها في كابول، وإلى أي مدىً يمكن الوثوق بها حليفا غير غادر، يمكن أن تعول عليه حكومة أفغانستان، إذا اقترب الخطر منها، بينما التحدّيات بالنسبة لحركة طالبان كثيرة ولا حصر لها في فرض نظام على مقاسها الأيديولوجي بعد نحو عقدين، وذلك إذا تمكنت أولاً في إطاحة النظام السياسي الحالي، وهذا سيناريو غير مرجّح حالياً، فضلاً عن تحدّيات الاندماج مع المجتمع الأفغاني، بقوة الرصاص أم عبر تغيير قناعات مجتمعٍ لم يعد حاضنة لـ”طالبان” وأتباعها، وهو ما سيدشن مرحلة جديدة من الصراعات المسلحة بين مسلحي الحركة ومليشيات قبلية، والتي بدأت الانتشار إلى جانب القوات النظامية لمواجهة تمدّد “طالبان”، بالإضافة إلى ذلك، كيف ستتمكّن “طالبان” من إقناع جيران أفغانستان بأنها لا تمثل تهديداً بالنسبة لأمن تلك الدول ومصالحها.
في النهاية، تبدو مسوّغات الانسحاب الأميركي من أفغانستان ضعيفة للغاية، من حيث عدم قدرتها على مواصلة الحرب ضد “طالبان” بقوة السلاح فقط، بل يحتاج الأمر بعد نحو عقدين من الحرب التي أورثت الأفغانيين فقراً مدقعاً ونزوحاً داخلياً، إلى صراع أيديولوجي لغسيل الأدمغة وإعادة ضبط الإعدادات الفكرية لدى الأفغانيين، وهذا غير ممكن إن لم يتم من الداخل فكراً وتنظيماً، فالثقافة الوافدة تبقى عاجزة في الانغماس والاندماج، بحكم اختلاف الإرث العقائدي والعادات الاجتماعية.
إذن، تبدو مآلات الصراع بين الأفغانيين ستأخذ منحىً خطيراً مع اقتراب المعارك في كابول فيما سيكتمل الانسحاب الأميركي بعد أسابيع، فهل حققت واشنطن أهدافها الاستراتيجية من جرّاء تدخلها العسكري واستباحة دماء الأفغان؟ أم أن استراتيجيتها كانت تنطوي فقط على خديعة من أجل إجراء تجارب لأسلحتها الفتّاكة المتطوّرة وإبراز عضلاتها العسكرية أمام متخيلات وهمية لا وجود لها، ما يعنى أن الانسحاب الأميركي استنفد أغراضه من دون أن يكسر شوكة “طالبان” كما روّج له منذ الغزو الأميركي عام 2001، لكن ترك مستقبل أفغان في مسار ومصير مجهول وسيناريوهات الحرب الشاملة محلياً وإقليمياً.