تراجعت ملامح العلاقة القوية بين مصر والسودان مؤخرا بعد أن تعززت المتانة بموجب العديد من التفاهمات السياسية والاتفاقيات العسكرية والاقتصادية، وانعكست إيجابيا على التعاون والتنسيق في التعامل مع أزمة سد النهضة الإثيوبي لأجل إقناع أديس أبابا بالتوقيع على اتفاق مُلزم يحدد سبل إدارة السد وآليات تشغيله أو إجبارها على ذلك.
أشارت الكثير من المعطيات إلى صعوبة توصل الدول الثلاث إلى اتفاق نهائي في ظل المواقف المتباعدة، وبدت أضلاع المثلث غير منسجمة معا، وتأكد أن السودان هو الذي يرجح كفة أي من الدولتين الأخريين (مصر وإثيوبيا)، فكلما اقترب تاريخيا من واحدة ابتعد عن الثانية.
عندما كانت الخرطوم على وفاق مع أديس أبابا في عهد الرئيس السابق عمر البشير وصلت علاقتها بالقاهرة إلى طريق شبه مسدود وتعززت رؤية إثيوبيا في إدارة أزمة سد النهضة، ومنحت قدرا من المراوغة مكنتها من القفز على بعض المطبات.
تغيرت المعادلة عقب سقوط البشير واقتربت حسابات السلطة الانتقالية من مصر بشكل انعكس سلبا على مواقفها من إثيوبيا، بما جعل رؤية الخرطوم محددا مهما في إدارة أزمة سد النهضة، والذي تتراوح تقديرات جهات سودانية متعددة حياله بين الخسارة الكبيرة والفائدة العظمى، لكن التقدير الرئيسي مقتنع بأن السد يمثل خطرا.
ظهرت ملامح التبدل والتغير في التعامل مع إثيوبيا من خلال موقفين طفوا على السطح قبل أيام، أحدهما سياسي والآخر اقتصادي، سوف تؤثر تداعياتهما سلبا على علاقة الخرطوم بالقاهرة إذا تمكن السودان من تحقيق اختراق فيهما أو كليهما.
الأول: عرض رئيس وزراء السودان عبدالله حمدوك وساطة بين الحكومة الإثيوبية والجبهة الشعبية لتحرير تيغراي لحل الأزمة المستعصية بينهما، بحكم أنه رئيس هيئة “إيغاد” المعنية بإيجاد تسويات سياسية للمشكلات المتفاقمة في منطقة القرن الأفريقي، وهي رسالة لم تبد أديس أبابا تفاعلا قويا عند استقبالها في البداية لأنها ترفض التفاوض حول أزمة تيغراي، بمعنى لا توجد ممانعات ضد حكومة الخرطوم.
الثاني: بثت وكالة أنباء السودان الرسمية خبرا، الجمعة، قال إن الخرطوم طلبت من أديس أبابا تزويدها بألف ميغاواط من الكهرباء، وهي حصة تمثل خمسة أضعاف ما تحصل عليه الآن (200 ميغاواط)، ما يوحي بأن هناك استفادة من سد النهضة وأنه كمشروع تنموي لن يكون مضرا للسودان مستقبلا.
يرجح هذا الطلب كفة من يرون الفوائد ويشجعهم على العودة للعزف على سيمفونية تراجعت ألحانها في الخطاب السياسي، ومن ثم توجيه انتقادات غير مباشرة لمصر، وغير مستبعد أن يقوم البعض باستدعاء ميراث المشكلات مع القاهرة، وهو ما يصب في صالح إثيوبيا التي يمكنها توظيف أي شقاق محتمل بين مصر والسودان.
تأتي العقدة من أن الخرطوم قامت بالتوقيع على اتفاق للربط الكهربائي مع القاهرة بهدف الحصول على حصة (300 ميغاواط) من فائض الكهرباء في مصر التي رحبت ضمن حزمة اتفاقيات كبيرة وقعها البلدان تؤكد اتساع نطاق التفاهم بينهما.
لا يخلو اللجوء إلى إثيوبيا في هذا التوقيت من دلالات سياسية، أهمها أن هناك معالم فجوة يمكن أن تتزايد بين الخرطوم والقاهرة في ملف الكهرباء إذا نجح ما يسمى بالتيار الإثيوبي في الحكومة السودانية بجذبها أكثر ناحية أديس أبابا، حيث يتبنى هذا التيار فكرة التوجه نحو الجنوب بحجة أن مصالحهم مع إثيوبيا أفضل من مصر.
قد يفشل عرض وساطة حمدوك في أزمة تيغراي، وربما لا يتحقق هدف مضاعفة الكهرباء الواردة من إثيوبيا، غير أن المؤكد أن التطورين يحملان رسائل غير بعيدة عن القاهرة، حيث تعتقد الحكومة السودانية أن توثيق العلاقات معها يصب في صالح الجناح العسكري في السلطة الذي استفاد معنويا من التصعيد مع إثيوبيا في أزمتي السد والحدود المشتركة باعتبار الجيش هو رأس الحربة الذي يحمي مقادير السودان.
لم تستطع الحكومة نزع هاتين الورقتين من المكون العسكري وإدارتهما بالطريقة التي تريدها، لأن جزءا كبيرا فيهما يدخل في نطاق دور الجيش الخاص بالحفاظ على الأمن القومي من جهة البعد الاستخباراتي الذي يتطلبه التعامل مع السد.
ملامح التبدل والتغير في تعامل السودان مع إثيوبيا ظهرت من خلال موقفين طفوا على السطح قبل أيام أحدهما سياسي والآخر اقتصادي وسوف تؤثر تداعياتهما سلبا على علاقة الخرطوم بالقاهرة
وعظّم توغل قوات الجيش لاسترداد منطقة الفشقة من العصابات الإثيوبية من هذا الدور، الأمر الذي يسحب البساط من تحت أقدام الحكومة ويقلل من مصداقية التمسك بالمرونة التي تحرص عليها مع إثيوبيا.
تكمن المشكلة في أن استمرار التوتر مع إثيوبيا يضمن تفوقا للمؤسسة العسكرية في حسابات السلطة ويخفض من رصيد المكون المدني، وتدفع حاجة هذه المؤسسة إلى التفوق التعاون مع مصر.
بالتالي فعرض الوساطة وطلب الكهرباء ليس المقصود منهما فرملة عملية التقارب مع القاهرة في حد ذاته، لكن من الطبيعي أن يؤديا إلى تفاهمات مع أديس أبابا يمكنها أن تضع التصعيد الحاصل معها على الرف مؤقتا.
يقود ذلك إلى عدم استبعاد نزع ورقة إثيوبيا بكل التباساتها من الجيش، فالمقاربة التي تتبناها الحكومة السودانية ترطب الأجواء مع نظيرتها الإثيوبية، ما يعني حدوث خلل جديد في أضلاع المثلث، حيث بدأ التعاون مع مصر يخفت تدريجيا بعد أن انتعش مع تضافر القواسم الإقليمية المشتركة.
تجد الحكومة السودانية دعما غربيا في مجال تقليص المساحة السياسية التي يتحرك فيها المكون العسكري، وتأييدا لتطوير العلاقة مع إثيوبيا خوفا من أن يفضي تصعيد الخلاف معها إلى حدوث تدهور في أوضاع المنطقة، فأركان الدولة الإثيوبية مهتزة حاليا وتواجه تحديات كبيرة يمكن أن تعصف بوحدتها الإقليمية.
كما أن القوى الغربية التي تنحاز صراحة أو ضمنيا إلى إثيوبيا في أزمة سد النهضة ترى أن اقتراب الخرطوم من أديس أبابا والعكس أحد صمامات الأمان لمنع القاهرة من اللجوء إلى الخشونة لأن جزءا كبيرا من تقديرات مصر العسكرية يعتمد على فكرة التعاون والتنسيق مع السودان وكل تطور يخطوه الأخير مع إثيوبيا يقلص من فرص توسيع الحرب في تيغراي، ويقلل من اتجاه القاهرة نحو الحل العسكري.
الواضح أن حكومة حمدوك تعي هذه التوازنات المعقدة جيدا، وتسعى إلى ضبطها بما لا يجعلها تصطدم بالمكون العسكري في مجال حيوي فتنفلت الأزمة المكتومة معه أو تبدو كمن يتآمر على مصر لصالح إثيوبيا ما يفرض عليها أن تكون تصوراتها مصبوغة بمرونة كافية لأن رهانات التفوق غير مضمونة العواقب.