الصومال اليوم

الأزمة الأثيوبية وتأثيراتها الإقليمية

عانت إثيوبيا، التي تمثل ثاني أكبر دولة في إفريقيا من حيث عدد السكان، من أزمات متكررة نتيجة الحكم العسكري والحروب الأهلية وأنواء الطبيعة مثل الجراد والفيضانات والمجاعة على مدى نصف القرن الماضي. 

بيد أنها في السنوات الأخيرة، برزت كقوة إقليمية رئيسية في منطقة القرن الأفريقي، وتمتعت بنمو اقتصادي سريع وأهمية استراتيجية متزايدة في المنطقة. 

وباختصار كانت تجسيدا لقصة الصعود الأفريقي كما روجت لها بعض المؤسسات النيوليبرالية الغربية. 

وقد مثل عام 2018 لحظة فارقة في تاريخ أثيوبيا الحديث، حيث استجاب رئيس الوزراء آبي أحمد لمطالب الإصلاح السياسي والاقتصادي، وحمل غصن الزيتون وذهب به مهرولا إلى إريتريا المجاورة، وهو إنجاز منحه جائزة نوبل للسلام. 

في البداية، قوبل هذا النهج الاصلاحي الذي تبناه آبي أحمد للتغيير بتأييد ودعم العديد من الإثيوبيين حتى وصل حد الهوس الديني بالرجل ووضعه في مصاف الأنبياء الذين ارسلهم الله لإنقاذ الأمة الأثيوبية. 

لكن كثيرا من الخبراء حذروا من أن تصاعد التوترات الاجتماعية والسياسية من جهة والقمع الحكومي المتجدد من جهة أخرى يمكن أن يقوض عملية التحول الديمقراطي في البلاد. 

أبي أحمد ومعضلة الحكم الشخصي في أفريقيا: 

في ذروة الهوس بظاهرة أبي أحمد “أبيمانيا”، حذر البعض من عيوب الرجل الشخصية. وقال أحد معارفه إنه منذ نبوءة والدته بأنه سوف يصبح الملك السابع، تقمص أبي صفة الشخص الموحى إليه. 

كان من أتباع الطائفة الخمسينية المتدينين، يولي وجهه للسماء طلبا للمشورة من الله ولكنه نادرًا ما يلتفت إلى مشورة من في الأرض. 

 لقد قدر قوته الجسدية، وتفاخر بأنه أفشل محاولة انقلاب ضده من خلال إثارة إعجاب الجنود بتمارين الضغط التي مارسها أمامهم. 

في مقابلة مع “فاينانشيال تايمز” في عام 2019 ، كانت هناك تلميحات إلى أنه مهووس بالسلطة. وقال وهو يتباهى بتجديد مكتبه الفاره، إنه حوله من “جحيم إلى جنة”، ووعد بفعل الشيء نفسه بالنسبة لإثيوبيا. ثم قال: “إذا نجحت في ذلك، “سواء أحببتم ذلك أم لا ،  فسوف تكتبون اسمي بحروف من ذهب”. 

ويبدو أن أثيوبيا كانت على موعد مرة أخرى مع البدايات الخاطئة التي حذر منها الاشتراكي الفرنسي رينيه ديموند أوائل ستينيات القرن الماضي. إنها مأساة نمط الحكم الشخصي الذي يصبح فيه شخص الحاكم هو محور النظام السياسي. 

حرب التيغراي وأزمات القرن الأفريقي: 

كان التصعيد الدراماتيكي للعنف في منطقة تيغراي الإثيوبية في أعقاب الحملة العسكرية التي شنها رئيس الوزراء آبي أحمد ضد الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي في يونيو 2020 قد دفع بمنطقة القرن الأفريقي إلى طريق عدم الاستقرار. 

ففي نفس الوقت، تتصاعد التوترات بشكل يثير القلق بسبب التعنت الأثيوبي إزاء قضية سد النهضة وإصرار إدارة أبي أحمد على تبني قرارات أحادية بخصوص ملء خزان السد دون التوصل إلى اتفاق ملزم مع كل من مصر والسودان . 

كما يواجه السودان، من جهة أخرى، تحدياته الداخلية الخاصة وهو يسعى إلى تأمين انتقال ديمقراطي واستقرار اقتصاده في أعقاب الإطاحة بعمر البشير في عام 2019. وهكذا يبدو أن سلسلة من الأزمات المتداخلة تكاد تعصف بالنظام الاقليمي لمنطقة القرن الأفريقي على مدى السنوات الأخيرة. 

ولعل ذلك هو الذي دفع إدارة بايدن التي تخشى من التهديدات الأمنية المتزايدة في المنطقة، إلى الإعلان عن تعيين جيفري فيلتمان مبعوثا خاصا إلى القرن الأفريقي. 

حرب التيغراي والفوضى القادمة: 

على أنه بعد ثمانية أشهر من إعلانه الانتصار على الجبهة الشعبية لتحرير التيغراي، تعرض رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد للهزيمة القاسية في تراجع مفاجئ، حيث تم طرد قواته من العاصمة الإقليمية مقلي بعد هجوم من قبل قوات الدفاع التيغرانية. 

يمكن أن يغير هذا التحول شكل الجغرافيا السياسية عبر منطقة القرن الأفريقي ذات الأهمية الاستراتيجية. 

كان مشهدا يحمل دلالات عديدة، فقد تدفقت الحشود المبتهجة على شوارع مقلي، العاصمة الإقليمية لتيغراي، للترحيب بالمقاتلين من قوات الدفاع التيغرانية الذين سيطروا بشكل كامل على المدينة بسرعة. 

كما أن القوات الأريترية ، التي تدخلت في الحرب لمساعدة الحكومة الإثيوبية وقوات ميليشيات الأمهرا في احتلال المنطقة، انسحبت من بلدات أخرى في تيغراي. 

وبعد فرار المسؤولين الحكوميين الإقليميين المعينين من قبل أبي أحمد من مقلي، دعا رئيس الوزراء إلى وقف مؤقت لإطلاق النار من جانب واحد لأغراض انسانية. 

ربما يعزى انتصار القوات التيغرانية إلى عبقريتها العسكرية الفذة وقدرتها على إدارة حرب العصابات التي تمرست عليها في الماضي القريب في مقابل الضعف العسكري لخصومها. 

ولا تزال الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي تحتفظ بتنظيمها العسكري والسياسي في حين بات الجيش الأثيوبي يعاني من الضعف والإحباط وضعف معنويات جنوده. 

لا شك أن الهزيمة الثقيلة للجيش الإثيوبي في التيغراي سوف يكون لها تداعيات خطيرة على الداخل الأثيوبي وعلى المنطقة الأوسع في القرن الأفريقي، بما في ذلك الصومال وإريتريا. 

ولعل كل المؤشرات تشير إلى أن أثيوبيا تتجه صوب التفكك البطيء في حالة أشبه بالبلقنة أو حرب الكل ضد الكل التي تحدث عنها توماس هوبز. 

إذا استمرت الحرب في التيغراي، وهو احتمال مرجح، فإن معنى ذلك فرار الملايين عبر الحدود، واشتعال حرائق متعددة في منطقة القرن الأوسع وتؤدي إلى أسوأ فترة من عدم الاستقرار منذ سبعينيات القرن الماضي. 

التراجع الأثيوبي: 

كانت إثيوبيا لعقود من الزمان بمثابة القوة الإقليمية الكبرى التي فرضت مفهومها للسلام في القرن الأفريقي “باكس أثيوبيانا”. 

إنها تحتضن في قلب عاصمتها مقر الاتحاد الأفريقي والعديد من المنظمات الدولية، وهو ما جعلها قوة سياسية ودبلوماسية وعسكرية تفوقت على العديد من دول الجوار الأفريقي. 

لقد استطاعت أن تهيمن بالمشاركة مع كينيا على جهود حل النزاعات وحفظ السلام في القرن الأفريقي مثلما حدث في السودان والصومال. 

كما اتضح ذلك أيضا بجلاء من الدور الأثيوبي البارز في الهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية (الإيجاد)، التي أسهمت في تسوية العديد من الصراعات والأزمات في المنطقة. 

تعرض دور إثيوبيا في تحقيق الاستقرار في القرن الأفريقي لضربة قوية في السنوات الأخيرة. 

وأحدثت سياسات رئيس الوزراء أبي أحمد وحساباته الشخصية تحولات فارقة في  طبيعة الاستراتيجية القديمة لإثيوبيا، كما قوّضت التحالفات القديمة، وأثارت التوترات مع كينيا، وأقامت علاقات مراوغة وغير حكيمة مع  كل من رجل القرن الأفريقي العجوز أسياس أفورقي في إريتريا ومحمد عبد الله فرماجو المنتهية ولايته في الصومال. 

وعلى الرغم من أن الهدف المعلن لهذا التحالف الثلاثي الذي تم تدشينه في يناير 2020، هو تعزيز التكامل الاقتصادي في القرن الأفريقي، فإنه في جوهره كان يدعم بقاء الحكام الثلاثة في مناصبهم. 

والأكثر خطورة أن هذا التحالف الثلاثي غير المقدس كان يهدف إلى إعادة تشكيل القرن الأفريقي وفقا لرؤية أسياس أفورقي. 

اتضح ذلك بجلاء من خلال محاولة تفكيك هيئة الايجاد والترويج للنموذج  الإريتري (حكم الشخص)، حيث لم تشهد أريتريا أي انتخابات منذ استقلالها في عام 1993. 

على الصعيد الصومالي، يوجد آلاف من القوات الأثيوبية في جنوب وسط الصومال، يخدمون في الغالب داخل أميصوم. 

تاريخيا، كما يقول رشيد عبدي المحلل الصومالي فإن استراتيجية أثيوبيا في الصومال لم تكن فقط هزيمة حركة الشباب، وانما دفع محيطها الأمني إلى عمق الصومال، وإغلاق حدودها بشكل أكثر إحكامًا، وبناء النفوذ بين العشائر في المناطق الصومالية على طول الحدود، وتحصين أقاليمها ضد ما تسميه التطرف الاسلامي. وقد تم تحقيق ذلك من خلال إنشاء قوات خاصة تدعم الولايات الفيدرالية في جوبالاند وبونتلاند والقوات المحلية المناهضة لحركة الشباب. 

 كانت الاستراتيجية فعالة، من منظور أديس أبابا. بيد انه في عهد أبي أحمد، تم التخلي عن الاستراتيجية القديمة. 

وختاما: 

 فإن الوضع في إثيوبيا قد يتدهور في الفترة المقبلة بصورة سريعة إذا لم يتدخل المجتمع الدولي بشكل حاسم. 

ويمكن أن يمتد الصراع إلى إريتريا والداخل الاثيوبي نفسه مثل أمهرا والأورومو وغيرها من بؤر التوتر العرقي. 

وقد يفضي وجود انفجار أو نزاع مسلح خطير طويل الأمد في إثيوبيا إلى خفض أعداد أو ربما الانسحاب الكامل للقوات الأثيوبية من الصومال. 

ولاشك أن الانسحاب الأثيوبي المتسرع سيمنح جماعة الشباب فرصة للتوسع والتمدد على نطاق أوسع في وسط الصومال. 

إنه على الرغم من المطالب الدولية بإنهاء الصراع، لا تزال القوات العسكرية الإثيوبية والقوات المتحالفة تسيطر على جزء كبير من تيغراي، وتحاصر عاصمتها الاقليمية من خلال قطع الكهرباء والاتصالات والمياه النظيفة وهو ما يفاقم الأزمة الإنسانية. 

وأخيرا يمكن القول أنه حتى وقت قريب، كان يُنظر إلى إثيوبيا، الحليف العسكري الموثوق به لدى الغرب، على أنها المحور الاستراتيجي للقرن الأفريقي. لكن مع استمرار الصراع، ثمة شعور متزايد بالقلق من أن إثيوبيا أصبحت مصدرًا لعدم الاستقرار في منطقة تمثل بحد ذاتها مركبا أمنيا بالغ التعقيد والتشابك. 

Exit mobile version