وسط إيقاع الموسيقى الحماسية ووقع ألحان وأهازيج الأغانى الوطنية وما صاحبها من الأجواء الاحتفالية التى عمت البلاد احتفاءا بذكرى الاستقلال من الاستعمار،خرج الجميع إلى الميادين وهم يرتدون ملابس زاهية مزركشة باللونين الأبيض والأزرق على لون العلم الوطنى، ويلوحون باعلام كبيرة وصغيرة، تتمايل يمنة ويسرة مع رقصاتهم، والابتسمات تعلو على الوجوه لتعكس مدي الغبطة والسرور التى تجيش في الصدور، ومنسوب الوطنية قد ارتفع لدي الجميع ليتحول إلى هوس وجنون، وبدأ ادعياء الوطنية يتشدقون بعبارات حماسية لا تتجاوز حناجرهم، والسياسيون يرددن بكليشهاتهم القديمة والشعارات البالية وهم يذرفون دموع التماسيح- وسط هذه الأجواء الساحرة والسريالية المفعمة بالعواطف الجياشة والمتباينة، والنوايا المختلفة، تغلبت على مهنتى القديمة، وتقمصت دور الصحفي الذي يحذوه الفضول، وأخذت الميكرفون لاسجل حوارا مع هذا المبجل الذي سميناه الوطن لاعرف شعوره حيال الفعاليات الشعبية والرسمية التى ملأت الميادين في الداخل والخارج وعلى منصات التواصل الاجتماعى احتفاءا بحبه. وحتى لا أطيل عليكم دعني أقدم اليكم نص الحوار بدون حذف أو تعديل.
س: مرحبا بك أيها المبجل! شعورك وأنت تري أن حبك وحّد أبنائك بمختلف قبائلهم، وعشائرهم وأفخاذهم؟ لابد وأنك تطير من الفرح والغبطة والسرور.
ج: دعنى أكمل لك … مختلف أديانهم، وجنسياتهم، وأوطانهم… أرى الدهشة وقد اعترت وجهك! هههه.. هوّن عليك. أبنائي اليوم منهم المسلم،والمسيحى،والملحد،ومنهم من أخذ الجنسية الإنجليزية أو الكندية، ومنهم الأمريكى والسويدي وحتى الصينى.. أبنائي اصبحو ميثالا حيا للشتات، وهي الحقيقة مع الأسف الشديد شئنا أم أبينا.
أشعر بالحزن والحسرة والأسى، وأؤكد لك أن الكلمات تضيق عن وصف ما أشعر به. وكيف تريدنى أن أفرح وأنا أري أبنائي وقد تشردوا فى شتى بقاع الأرض يتجرعون مرارة الذل والهوان كل يوم، ويلتحفون وحشة الغربة والضياع كل ليلة! عرضوا أنفسهم للهلاك في الصحاري عطشا وجوعا، أو أسري في أيدي تجار البشر الذين أذاقوهم صنوف التعذيب للحصول على الفدية، ومن نجا من الموت في الصحاري ركب الأمواج ومات في أعالى البحار ليكون لقمة صائغة للقروش والحيتان التى تعيش في قاع المحيطات.
كيف أفرح وأنا أشاهد معاناة من يقى منهم داخل الوطن وهم يسارعون الموت كل يوم لنيل لقمة عيش لا تكاد تسد رمقهم. ألم تر مخيمات اللاجئين المنتشرة في المدن الكبيرة بما فيها مقديشو العاصمة، ألم تر تلك الأكواخ البالية التى لا تقيهم حر الصيف ولا برد الشتاء؟ . وفي الأرياف يعيش أبنائى ما بين مطرقة المجاعة والعطش في موسم الجفاف وبين سندان الفيضانات وما يصاحبه من الأمراض الفتاكة في موسم الأمطار، قل لى كيف لى أن افرح؟
س: لكن ألا يجب أن نتفائل بروح الوطنية التى سرت في اجسادنا، وجعلتنا نرقص وسط أهازيج الأغانى الوطنية؟ ألم تر الرئيس وهو يضع أكاليل من الزهور على النصب التذكارية لشهداء الحرية؟
ج: كفى! تلفظ السيد المبجل.. الوطن، بهذه العبارة، مبديا انزعاجه من سذاجتى المفرطة، وقال موجها إلىّ السؤال التالية: وهل الوطنية الرقص على أنغام الموسيقى الحماسية؟ ثم واصل كلامه قائلا ،بدون أن يعطينى فرصة للجواب، إنها الخدعة الكبرى لإلهاء أبنائى من واقعهم البائس، وفرض مزيد من أغلال العبودية عليهم. هل تعرف كم كلفت الحفلات التى تتحدث عنها خزينة الدولة؟: وكم سرق اللصوص وتجار الوطنية من خزينة الدولة باسم احتفالات الأعياد الوطنية؟ ما ذا استفاد الوطن من الحفلات الباذخة والاضواء البراقة والخطب الرنانة، ودموع التماسيح من قبل أدعياء الوطنية الذين يهتمون فقط العوام لرفع شعبيتهم؟قل لى هههه …
وعلى الجانب الآخر أشرت إلى وضع أكاليل من الزهور على النصب التذكارية. هل تعرف أن آلافا من أبنائي الذين يعيشون في الأحياء القريبة من القصر لم يتمكنوا الخروج من بيوتهم لأن أجهزة الأمن منعت منهم الخروج بحجة حماية فخامته وموكبه البهى ليضع الأكاليل التى أشرت إليها؟ وهل تعرف أن كثيرا منهم آوو إلى فراشهم وبطونهم خاوية لأنهم كانو يعشون ما يكسبونه من عملهم اليومى؟
دعك عن هذا، هل تعرف أن مخيما للنازحين يعج بالبؤساء، ويقع مقابل النصب التذكاري لشهداء الحرية، وأن ثمن السجاد الحمراء التى وضعت للرئيس فقط كان كافيا ليحصلو على وجبة عشاء أو غذاء تقوي أصلابهم، فضلا عن الاموال المبعثرة في الحراسة والأمور اللوجستية، وتأجير الفرق الغنائية والقاعات والديكور ورشاوي الاعلام وهلم جرا.!
ألم يكن بالأحرى أن نحول أسبوع الأعياد الوطنية الى أسبوع التكافل فيما بيننا، نهتم بفقرائنا وننظف مدننا، ونحول مفهوم الوطنية بحب المواطن، وصون كرامته، فبئس الوطن الذي يهان فيه أبنائه! وبئس الوطنية التى لا تتعدي الشعارات البراقة! وبئس الوطنية التى تتخذ غطاءا للديكتاتورية والتسلط، ومطية لقهر المواطن وسلب حقوقه الأساسية من حرية وكرامة! وبئس الوطنية التى تستخدم من قبل اللصوص لنهب الأموال العامة.. بئس … وبئس….
هنا وضع السيد المبجل الميكرفون على المنضدة، وفجأة بدأت الدموع تترقرق في مآقيه، وأشاح وجههه عني ليخفى عني بكائه الذي تحول إلى حشرجة مكتومة، فتسللت إلى الخارج بدون إلقاء تحية الواداع.