لم ينجح الرهان على تغييرات حاسمة في الشرق الأوسط منذ سريان “الفوضى التدميرية” في 2011، في موازاة موجة التحولات ومحاولة التغيير. واليوم بعد وصول إدارة جو بايدن والانعطاف السعودي والتغيير في إسرائيل والانتخابات الرئاسية في إيران والتبدّل التركي والانسحاب الأميركي المبرمج من أفغانستان، يحق التساؤل عن إمكانية ربط تجميد النزاعات بإدارة الفوضى لتكريس الوضع القائم وتوزيع النفوذ.
تؤكد ذلك تعقيدات إعادة تركيب المنطقة (سايكس بيكو جديدة أو مؤتمر وستفاليا مبتكر على قياس الإقليم) بانتظار اتضاح التغييرات في حال استكمال صفقة الاتفاق النووي مع إيران وتداعيات تخفيف الانخراط الأميركي. لكن تنظيم الخلافات أو تجميد النزاعات لا يعني غياب إمكانية حصول نزاع جديد فوق النيل بسبب سد النهضة الإثيوبي، والأهم أنه لا يعني طمس الثقوب السوداء في منطقة مليئة بنزاعات مستعصية وكراهيات قاتلة وتطاحن خارجي ومشاريع إمبراطورية تصادر الخرائط والأوطان.
رغم أن أجواء مفاوضات فيينا توحي بعقبات كأداء. لكن القرار السياسي المتخذ على أعلى مستوى في البيت الأبيض وحاجة إيران الماسة لرفع العقوبات الأميركية، يدفعان للاعتقاد بأن الصفقة ستتم في نهاية المطاف سواء قبل نهاية عهد حسن روحاني أواخر أغسطس القادم أو بعد تسلّم إبراهيم رئيسي زمام السلطة التنفيذية. إلا أن العودة إلى الاتفاق تحمل معها أسئلة حول تسليم طهران بالتخلي فعلا عن هدفها غير المعلن بتصنيع سلاح نووي، وإذا كانت القيادة الإيرانية ستوافق على التخلي عن مكاسبها الإقليمية وفك ارتباطها بالصراع الفلسطيني – العربي مع إسرائيل.
حتى اللحظة تصرّ طهران على حصرية التفاوض بالعودة إلى اتفاق 2015 لا غير، لكن الرفض الإيراني بحث برنامج الصواريخ الباليستية والسلوك الإقليمي، يعني ضمنا حث واشنطن على قبول استمرار الوضع القائم لصالح النفوذ الإيراني في اليمن والعراق وسوريا ولبنان، وهل سيكون ثمن ذلك قبول إيران بتجميد دعمها للمواجهة ضد إسرائيل. بيد أن ذلك يتوقف أيضا على دراسة تداعيات تخفيف الوجود العسكري الأميركي في العراق والدول العربية في الخليج، ومدى استمرارية التداخل الاستراتيجي بين الولايات المتحدة وإسرائيل.
يترك التجميد المنتظر وكذلك سيناريو المساومة الكثير من الأسئلة المعلقة في منطقة مركزية بالنسبة إلى موازين القوى الدولية ورسم ملامح النظام العالمي الجديد. على ما يبدو أن توجهات إدارة بايدن في تجميد النزاعات لا تلقى التجاوب المطلوب، والدليل الأكبر تطورات صراع اليمن، إذ أن الاستعداد السعودي للحل لم يجد صداه عند الجانب الحوثي وإيران، واقتصر رد فعل واشنطن على محاولات وساطة عقيمة وتصريحات متناقضة حول الاعتراف بشرعية الحوثيين من دون تحقيق أي اختراق ملموس. أما في العراق فمن الواضح أن الحشد الشعبي الموالي لإيران يسجل نقاطا وتستمر العمليات ضد القوات الأميركية. وفي سوريا، بعد قمة بايدن – بوتين وبدل تفاهم الحد الأدنى بين واشنطن وموسكو، إذ بالجانب الروسي يصعّد من باب إدخال المساعدات الإنسانية الأممية ويترك الباب مفتوحا لمزيد من الانهيار الاقتصادي والإنساني. وفي لبنان يبقى الاستعصاء سيّد الموقف والمحور الموالي لإيران متمسك بمواقعه.
على خط آخر ينظر البعض إلى نهاية حقبة بنيامين نتنياهو في إسرائيل وتراجع الإدارة الحالية عن بعض قرارات الإدارة السابقة، على تراجع الرهان على تغيير وجه المنطقة مع تطبيع بعض الدول العربية مع إسرائيل، إذ أظهرت هبة القدس وحرب غزة عدم إمكانية تخطي العامل الفلسطيني وبرز بالنسبة إلى الجانب الإسرائيلي “أولوية التهديد الإيراني” والمخافة من تخفيف الدعم الأميركي. واللافت زيادة وتيرة التشاور الأميركي – الإسرائيلي بشأن التناقضات حول الملف النووي الإيراني ويبدو أن الديمقراطيين في الولايات المتحدة يراهنون على وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لابيد الوسطي الانتماء والنجم الصاعد في المشهد السياسي. وهذا الواقع الإسرائيلي المستجد يبقى هشّا ولن يقود إلى تغييرات في التعاطي مع الواقع الإقليمي وخاصة إزاء وضع غزة والوجود الإيراني العسكري في سوريا وحزب الله.
على صعيد آخر يمكن للوضع الجديد في أفغانستان بعد إتمام الانسحاب الأميركي في سبتمبر القادم، أن يخلط الأوراق منذ الآن. وحسب متابعين للوضع الأفغاني فقد نسجت حركة طالبان حلفا مع “القاعدة” و”داعش” وتنظيمات متشددة للسيطرة على البلاد، ومن جهتها بدأت إيران الحذرة من هذه التطورات في حشد ميليشيات تستدعيها من الساحة السورية كي تعزز وضع أنصارها داخل أفغانستان. ويطال ذلك اللعبة الدولية حول مجمل “الشرق الأوسط الكبير”.
مما لا شك فيه أن الصين القوة العالمية الأولى المنافسة للولايات المتحدة تراقب باهتمام انسحاب واشنطن العسكري التدريجي ليس فقط من أفغانستان، بل كذلك إخلاء بعض القوات الأميركية في العراق وبعض المواقع الأميركية في الدول العربية في الخليج. وإذ لا يمكن للصين، التي تملك فقط تواجدا عسكريا عبر قاعدتها في جيبوتي (القاعدة العسكرية الوحيدة في العالم خارج جوارها المباشر)، تصوّر ملء الفراغ العسكري الذي ستتركه واشنطن، إلا أنه من المرجح أن تقوم بكين بتفعيل عناصر قوتها الناعمة عبر ترسيخ وتكثيف التبادلات الاقتصادية والاستثمارات، ما يتيح لها على وجه الخصوص بناء طرق الحرير الجديدة. وهكذا سيكون الشرق الأوسط الكبير في قلب صراعات الثلاثي الأميركي – الصيني – الروسي وسيكون على القوى الإقليمية التموضع تبعا لذلك. ومن هنا ليس من الضروري إذا توجهت إدارة بايدن لتمديد الوضع القائم أو تحبيذ مشاريع إعادة تكوين دول في بعض الحالات، أن تقبل القوى المتنافسة الأخرى بذلك مما يترك الباب مفتوحا على عدة احتمالات. وعلى سبيل المثال سيكون مستقبل إيران الاقتصادي بعد رفع العقوبات محور صراع بين عدة لاعبين: الولايات المتحدة، الصين، روسيا وكذلك بلدان أوروبية والهند.
انطلاقا من ذلك يتبيّن أن الشرق الأوسط مرشح للدخول في مرحلة انتقالية هادئة بالقياس لما سبقها، خاصة إذا ارتبطت تفاهمات تنظيم الخلافات بديناميكيات يمكن أن تمهد الطريق لوقف التدهور ولبلورة خارطة إقليمية أخرى أكثر استقرارا.