لم تكن الطعنات التي وجهت للمندوب المصري كمال الدين صلاح عضو المجلس الإستشاري للأمم المتحدة الخاص بالصومال في ظهيرة السادس عشر من أبريل عام ١٩٥٧ موجهة لشخصه الجسدي بقدر ما كانت موجهة لما كان يمثله الرجل.
إن تلك الطعنات الغادرة كانت تهدف إلي إغتيال حلمه، وتسعى لقتل طموحه، تطلعاته، ورؤاه.
تلك الطعنات الحاقدة كانت ترمى إلى إجهاض المشروع القومي الصومالي قبل ولادته. إذ أن المندوب المصري كمال الدين صلاح كان في واقع الأمر القابلة الحقيقية للأمة في مخاضها العسير لولادة الدولة الصومالية. وبتصفيته تمت تصفية المشروع النهضوي للصومال، في تلك الظهيرة إنتصرت قوى التخلف والظلام والرجعية على قوى التحديث والتقدم والنهوض.
وبما أن المجال هنا لا يتسع لتناول كافة جوانب تأثيرات كمال الدين صلاح، وتحليل أفعاله ومرجعيته الفكرية والعقائدية بما تقتضيه الموضوعية وبما يتطلبه واقعنا المعاصر الذي لا زال فعلاً أسيراً لإرتدادات تلك اللحظة وتأثيراتها ، إلا أنني سأسعى في عجالة إلي تسليط الضوء على بعض الجوانب المهمة :-
أولاً.:- من هو كمال الدين صلاح؟
هو محمد كمال الدين أحمد صلاح الدين ، مصري من مواليد ٢٨ مايو ١٩١٠ وعمل في مجال الديبلوماسية المصرية لقرابة العقدين من الزمن وتنقل بين أكثر مناطق العالم إلتهاباً وإشتعالاً ، فمن القدس والثورة العربية في ١٩٣٦ والعمل مع المفتي الحسيني، ذهب الي اليابان عندما كانت الحرب الصينية اليابانية تشغل العالم ، ثم نقل إبان الحرب العالمية الثانية الي بيروت التي كانت في قبضة حكومة فيشي وعمل فيها على مساعدة اللاجئين العرب والفارين من الإضطهاد الإنجليزي في فلسطين والعراق وإيران ، الأمر الذي دفع باللورد كيرن الي ان يطلب من السلطات المصرية سحبه من لبنان.
كما عمل أيضاً في اليونان التي كانت تخوض حرباً أهلية بين الحكومة والشيوعيين، ونقل الي الأردن ليشهد الحرب العربية الإسرائيلية الأولى بأم عينيه ، وتشيكوسلوفاكيا ثم سوريا في عهد الشيشكلي لينتهي به المطاف في العام ١٩٥٣ قنصلاً لمصر في مدينة مرسيليا الفرنسية.هذه سيرته المهنية بإختصار حتي أبريل ١٩٥٤ عندما أبلغته حكومته بقرار نقله الي الصومال حيث سيعمل عضواً في لجنة دولية تراقب عملية تأهيل الصومال لنيل إستقلاله.
كان كمال الدين صلاح معروفاً بالدأب وسعة الإطلاع بالإضافة الي مقدرة فذة في متابعة الأحداث وتحليلها وأكتشاف تفاصيلها ، و كان أيضاً مسلماً عربياً أفريقياً غيوراً آمن بقدراتنا وإمكاناتنا قبل أن نؤمن بها نحن ، فجعل علي رأس أولوياته العمل بصدق من أجل تحرير الصومال ، وهو الامر الذي وضعه في مجابهة رسمية مع الدولة الوصية إيطاليا وبقية الدول الأخرى التي كانت بدورها تستميت في سبيل عدم تحقيق ذلك الهدف كبريطانيا وفرنسا وإثيوبيا ، تلك الدول التي وحدتها رغم إختلاف مصالحها وأهدافها الرغبة في وأد الحلم الصومالي.
ومن البداهة إكتشاف أن مستقبل الصومال الإيطالي آنذاك كان سيؤثر وبما لا يدع للشك مجالاً في الصومال البريطاني والصومال الفرنسي والصومال الإثيوبي، كما أن إيطاليا التي إعتادت على إعتصار الصومال وأهله ما كانت لتتنازل عنه بسهوله لشعبه المتخلف ، خاصة وأنها تمتلك جالية ضخمة تتحكم في جميع مناحي الحياة بالبلد ولديها إستثمارات ومصالح تجارية حيوية ( كتجارة السكر والموز) لا يمكن الإستهانة بأهمية دورها في الإقتصاد الإيطالي بعيد الحرب العالمية الثانية ، أضف إلي ذلك بداية التدخل الأمريكي عبر شركاته الباحثة عن النفط بأي ثمن.
يذكر كمال الدين صلاح في مذكراته أنه إرتاع من سوء أحوال أهل البلد وفقرهم، ومن درجة تخلفهم عن ركب الحضارة والمدنية الحديثة ، ويصف حالتهم بحالة البشر أيام أدم عليه السلام ، إلا أنه يتفاءل بمدى تطور الوعي السياسي لهذا الشعب فيقول : قمت بجولة في أنحاء الصومال دامت إسبوعين ، قطعت خلالها ثلاثة آلاف ميل بسيارة جيب ! وإجتزت خلالها آراض صحراوية وغابات إستوائية ومناطق زراعية ومراع ، لقد إختلطت خلال هذة الرحلة بالأهالي ، وتحدثت إليهم ، وصليت معهم في المساجد ، وخطبت فيهم شارحاً وضع بلادهم والدور الذي يجب أن يقوموا به ليحققوا إستقلالهم والدور الذي تقوم به الأمم المتحدة لمساعدتهم ، إن الناس هنا في حالة فقر شديد. كثيرون منهم يعيشون على الفطرة كيوم هبط جدنا آدم إلي الأرض وعشرات الألوف في الغابات والمراعي شبه عرايا ليس على أبدانهم سوى ما يستر عوراتهم ويأكلون مما يحصلون عليه من صيد الغابة وألبان الإبل والأبقار والأغنام وفي المناطق الصحراوية يبيت الناس في العراء وقد يكون لسلطان القبيلة وزعمائها أكواخ من القش وفروع الأشجار. حتى العاصمة نفسها، نجد أن أحياء الوطنيين فيها فقيرة كئيبة ، ورغم أن هناك مساحات واسعة من الأراضي الصالحة للزراعة فإن أغلبية الناس منصرفون عن الزراعة فهم لا يعرفون طرق الزراعة وهم يعجزون عن مجاراة الإيطاليين الذين يزرعون المناطق القريبة من النهرين بالآلات الحديثة…، ولكن هؤلاء الفقراء الذين يسكنون العراء ، ويأكلون من صيد الغابات يتقدمون في فهمهم السياسي والقومي بشكل عجيب ! ففي أقصى الغابات نجد واحداً عنده ( راديو بطارية ) يسمع منه الأخرون نشرات الأخبار ! لقد وجدتهم يعرفون أخبار مصر معرفة دقيقة .. إنهم يتتبعون معاهدة الجلاء ، والحلف العراقي التركي ، وسفر جمال عبد الناصر إلي مؤتمر باندونج الذي يتكون من الشعوب الآسيوية والإفريقية ، إلخ.
هنا يتساءل الواحد كما تساءل كمال الدين صالح: ما الذي فعله الإستعمار على مدى العشرات من السنين لتعمير هذا البلد وخدمة أهله… لا شئ ، الجواب هو لا شئ، بل بالعكس لقد عمل الإستعمار على تخلف وإفقار أهل البلد لضمان إستمرارية وبقاء نظامه في نهب وسرقة خيرات الصومال.
كان كمال الدين صلاح يؤمن بالأمم المتحدة ودورها في بناء الصومال الجديد، وأن رسالة الأمم المتحدة هي رسالة أخرى تختلف عن رسالة الإستعمار والقوى الإمبريالية، فهل كان محقاً في إعتقاده ذاك، أم كان ساذجاً وحالماً؟. هل فعلاً كانت نوايا الأمم المتحدة تتمثل في نقل هذه الأمة إلى مستوى حضارة النصف الثاني من القرن العشرين؟ وأن تعلمه السيادة وحق تقرير المصير، وأن يحكم نفسه بنفسه ليرتقي بذاته كبقية الشعوب الطامحة الي تهيئة ذاتها للمشاركة بقوة وفاعلية في التقدم نحو القرن الحادي والعشرين؟ أم أنها مجرد أداة جديدة للتحكم في تلك الشعوب التي إنتزعت حريتها من القوى الإستعمارية رغماً عن أنوفهم؟ وهل كان ينطلق في أدائه لعمله من منطلق خدمة السياسة الناصرية المصرية ؟ لست أدرى .. ولا أمتلك الإجابات الشافية على الكثير من تلك التساؤلات المشروعة والتي يتوجب علينا طرحها بعد ستين عاماً من الخيبات والفشل ، ولكن نظراً لقوة إندفاع كمال الدين صلاح وعناده في تحقيق الأهداف المعلنة للبعثة ، ومن خلال ثباته في وجه المحن والمخاطر التي كان يواجهها بعزم وصلابة ، يمكننا القول بأنه آمن حقاً بميثاق الأمم المتحدة وفاعلية دورها وإيجابياته في تهيئة الصومال ، كما آمن بأهمية دوره الشخصي في تسطير هذة الملحمة القومية لإعتبارات إنسانية في المقام الأول ، ولقناعات دينية في المقام الثاني.
عقد كمال الدين صالح النية على محاربة كل ما من شأنه إفشال المشروع الوطني أو تأخير إستقلال الصومال ، فشرع في التواصل مع قادة الأحزاب الوطنية على إختلاف مشاربهم ، وإنفتح عليهم بلا مواربة وتردد ، وأخذ يطلعهم على خبايا وخفايا اللعبة السياسية الدولية ، و يعمل مع جميع القوى الوطنية الحرة على رسم الخطط اللازمة والخطوات المناسبة لمواجهة هذة المكيدة أو تلك ، الأمر الذي جعل منه محلاً لثقة جميع الأطراف الوطنية ورقماً صعباً في معادلة الوصاية الأممية.
ثانياً:- لماذا نستحضر اليوم كمال الدين صلاح ؟
الشعوب والمجتمعات كالأفراد .. تولد، تنمو، تشيخ ، ثم تموت. تمرض فتتعافى لتعود من جديد إلى المرض لكي تتعافى منه مرة أخرى وهكذا دواليك . وأيضاً كما الأفراد تحتاج المجتمعات والشعوب إلى من يقف بجوارها في لحظات الضعف والهوان ليعتني بها ويرعاها. كان كمال الدين صالح للقومية الصومالية بمثابة القابلة التي ساعدت بخبرتها ودرايتها الأمة الصومالية في عملية المخاض العسير لولادة الدولة الوطنية.
أحبه الشعب الصومالي وإحترمه لأن نواياه تجاه الصومال كانت واضحة لا لبس فيها ولا تدليس .
لم يكن ذلك المندوب المصري يألوا جهدا في سبيل التواصل مع شرائح ومكونات المجتمع ، إذ أنه كان مغرماً بالتنقل بين أرجاء الوطن من رأس عسير إلي رأس جيامبوني ليجمع المعلومات بنفسه ويرى ويتابع أحوال الناس بعينيه لا بعيون الإعلام وتقارير المخبرين .
وبقدر ما كانت شعبيته تتعاظم في أوساط الصوماليين ، كانت كراهيته تتزايد في نفوس المناوئين له ، وبلغ الأمر بهم إلى درجة التشهير به عبر كبريات الصحف الغربية من قبيل النيويورك تايمز، والديلي إكسبرس ،والإيكونوميست ، تلك الصحف التي شنت عليه حمة شعواء هدفها تضليل الرأي العام المحلي والدولي واتهمته بالعمل من أجل سيطرة مصر الناصرية علي الصومال وإستخدامها كبوابة لعمق أفريقيا.
وبرغم كثرة تلك الضغوطات الغربية وجديتها لم يستسلم كمال الدين صلاح ، بل إنه قبل التحدي وأعلن القتال ضد تلك السياسات العقيمة على جميع الجبهات ، حيث أنك تراه يحارب الفساد وإستغلال الصوماليين عبر معارضته للإتفاقية السرية المبرمة بين شركة النفط الأمريكية العملاقة سنكلير والإيطالية أجيب ،أو تراه يرفض مرسوم الحاكم الإيطالي الصادر في نوفمبر ١٩٥٦ والمتعلق بتأسيس وكالة تنمية إقتصادية للصومال ويطالب بإشراك الصوماليين في إدارتها، ثم تلقاه مشتبكاً مع الحاكم العام الإيطالي بخصوص الممارسات العنصرية لمكتب البريد العام والذي خصص للأوروبيين مكاناً فسيحاً مريحاً في داخل المبنى بينما أبناء الشعب وبقية الأجانب من عرب وهنود وباكستانيون خصصت لهم نافذة صغيرة تطل على الشارع العام ، وتجده مرة أخرى يكافح قساوسة التبشير من أمثال القس ويلبرت لند رئيس البعثة التبشيرية المعروفة ب ( Somali Mennonite Mission) والقس موديكر عبر تنبيه القيادات الوطنية بمخاطر هذه الآلية الإستعمارية ودورها في تشويه ومسخ الهوية الوطنية للمجتمعات الأفريقية والآسيوية ، ثم ما تلبث أن تسمع بأنه تقدم إلي مجلس الوصاية الأممي أو لأعضاء اللجنة الإستشارية بشكوى ضد القانون الإنتخابي الذي وضعه الدكتور فرانكا عند إقتراب موعد إنتخاب أعضاء الجمعية التشريعية الأولى والذي كان يقضى بضرورة إجراء الإنتخابات علي أساس القبيلة وتقسيم الدوائر الإنتخابية علي أسس قبلية ، كان كمال الدين يرى في ذلك خطراً على الوحدة الوطنية للشعب الصومالي وقضيته ، وترسيخاً للقبلية التى ستفت في عضد الأمة.
أهمية كمال الدين صلاح في الذاكرة القومية الصومالية تنبع من تركيزه على ضرورة تعليم وتثقيف أبناء هذا الوطن على قواعد وأسس حديثة ومغايرة لنظم ومناهج التعليم العقيمة التي وضعها المستعمر . فكمال الدين كان يؤمن بأن تحرير الأوطان يبدأ من تحرير الأذهان ، وبأن الصومال في غده يحتاج إلى عقول.
هذة الجزئية بالتحديد هي التي ميزت كمال الدين صلاح عن ألاف الممثلين الدوليين الذين مروا كراماً على الذاكرة السياسية الصومالية ، وهي الجزئية التي ظلت ولا زالت وستبقى محفورة في وعينا الجماعي ما بقيت المدارس والجامعات تقوم بدورها في الصومال.
بفضل تلك الخطوة الشجاعة التي رفضتها في البداية إيطاليا الوصية وبقية الدول الإستعمارية ، تعلم مئات الآلاف من أبناء شعبنا ، لقد فطن كمال الدين صلاح بذكائه إلى أن لب وجوهر الصراع في القرن الإفريقي وبقية دول العالم الثالث يكمن في الهوية ، وأنها العامل الرئيسي الأهم في عوامل الإنتصار أو الإندحار، وان نهوض الأمم ورفعتها منوط بطبيعة وعيها بذاتها ، وإدراكها لخصوصية شخصيتها القومية ، وبمدى رسوخ وتجذر هذا الإدراك.
ولأن الثقافة هي شريان الحياة لأية هوية ، فقد عمد صاحبنا إلى تحصين وتعزيز مناعة الهوية الصومالية عبر توظيف دينها في الصراع ، وإستغلال إرتباطها الروحي العميق بالإسلام وتعصبها الشديد لكل ما يمت بصلة لديانة التوحيد. لقد إستطاع بحنكته أن يجسر لمصلحته الهوة التي كانت تفصل بين العروبة والإسلام في الصومال ، وبحكم أن اللسان العربي المبين هو لغة القرآن ، فإنه لم يكن من الصعوبة بمكان أن يتم التسويق للغة العربية على أنها الوعاء الحضاري الأمثل لإحتواء الهوية الصومالية ، وصهرها في بوتقة الثقافة الإسلامية الكبرى التي تسمح أطرها الكونية الشاملة بتعايش الكثير من الخصوصيات القومية.
وكانت النتيجة أن إنتصر كمال الدين صلاح لوحده في التعريب ضد جحافل التغريب التي حاولت أن تتدارك خطئها بشتى الطرق والوسائل ، وإستطاع أن يحدث بمفرده ثورة في مجال التعليم بالصومال وعلى كافة مراحله ، وإنتشرت المدارس المصرية والبعثات الأزهرية في أرجاء الوطن وفي القري والبوادي كإنتشار النار في الهشيم ، مسجلة بذلك أول دخول شامل للتعليم النظامي الحديث في تاريخ الصومال .وموجهة في نفس الوقت صفعة لوجه الإستعمار الذي عجز أو تقاعس عن ربع هذا الإنجاز طيلة العشرات من سنوات تواجده المقيت.
ثالثا : من قتل كمال الدين صلاح ؟
كان كمال الدين صلاح يعد العدة لواحدة من أعقد وأعنف معاركه من أجل الصومال عندما قتل في ١٦-٤-١٩٥٧.
كان منغمساً وغارقاً حتى أذنيه في قضية الحدود بين الصومال وإثيوبيا، تلك المنطقة التي يقطنها الصوماليون والتي لا تتواجد فيها حتى أقلية من قومية أخرى غير صومالية ،والتي كانت بعهدة بريطانيا منذ إستيلائها على القرن الإفريقي برمته في العام ١٩٤٢ بعد طردها للقوات الفاشية الإيطالية ، وحاولت بريطانيا بعدئذ أن ترسخ وجودها في المنطقة عبر الدعوة إلى توحيد الصوماليين وإنشاء الصومال الكبير إثر ضم الصومال الإيطالي للصومال البريطاني و إخراج الفرنسيين من الصومال الفرنسي ، وظلت تروج لهذة الفكرة إبان الحرب العالمية الثانية لضمان إستتباب الأمور في المنطقة و لإسترضاء الشعب الصومالي وكسب وده ، إلا أن الفشل الذريع الذي منيت به جراء إختيار الصوماليين في الجنوب الوصاية الإيطالية على الوصاية البريطانية في العام ١٩٥٠ وذلك لإعتقادهم بإن إيطاليا بعد الحرب أضعف من أن تماطل وتتلكأ في تحقيق مطالبهم بعكس بريطانيا القوية والتي خرجت من الحرب منتصرة ، ذلك الفشل الذريع أثار حفيظة الإنجليز ودفعهم الى الإنتقام من الأمة الصومالية عبر تقسيمها والتنازل في العام ١٩٥٥عن الأراضي التى بعهدتها وهما إقليمي أوجادين وهود لصالح حليفتها إثيوبيا.
كان كمال الدين صلاح رأس الحربة في الجهود الرامية لإستعادة تلك الأراضي التي منحتها بريطانيا على غير وجه حق ، ومشغولاً بالتنسيق مع الدول العربية الشقيقة وجميع ممثلي البلدان الصديقة في المنظمة الدولية من أجل إستصدار قرار أممي يعالج هذة المسألة .
هذا كل ما أعرفه.. وأنا لست هنا لأكيل الإتهامات جزافاً وبلا بينة ، كما أنني لست في موقع يخولني سلطة التبرئة والإدانة لهذا الطرف أو ذاك . ولكنني أيضاً أجد نفسي مجبراً على التعبير عن قناعتي الشخصية بأن الصوماليون برآء من دم كمال الدين صلاح كبراءة الذئب من دم يوسف. وذلك لأن كمال الدين صلاح لم يكن يمثل خطراً على مصالح الصومال و أهدافه. كما أن الصومال لم يكن ليستفيد شيئاً من تصفية هذا الرجل الذي كان يساند قضاياهم بكل ود وإخلاص.
إن من قتل كمال الدين كان متضرراً من أنشطته وتحركاته، كان مستفيداً من تغييبه وإخراجه
من المشهد السياسي الصومالي. وهو نفس من يقف اليوم بين الصومال وإستعادة دولته.
وهنا وفي هذا المقام لا أجد من الكلمات في هذا الصدد ما هو أبلغ من كلمات أرملة الشهيد السيدة أمينة مراد والتي ألقتها عندما قدمت مع أنجالها إلي الصومال في العام ١٩٦٢ بناء على دعوة رسمية وجهها فخامة الرئيس المغفور له بإذن الله – أدم عبدالله عثمان – وذلك للمشاركة في الذكري السنوية الخامسة لإستشهاد كمال الدين صلاح ، قالت تلك السيدة النبيلة في ذلك اليوم المهيب :- ( لسنا حاقدين حتى على محمد شيخ عثمان الذي إمتدت يده إلى ظهر كمال وطعنته ، إذ يكفى أن يكون محمد شيخ عثمان صومالياً ليستحق من كمال وهو في جوار ربه ومنا نحن أسرة كمال الدين العفو والمغفرة ، فقد كان هو كما كانت الشعوب الأخرى الكثيرة في أفريقيا وآسيا حية لمؤامرة كبرى غايتها أن تزرع بيننا الأحقاد ، وأن تضللنا ، وأن تفرقنا. وما أيسر أن يقع في شباك أعدائنا شباب قليل التجربة ، لا يعرف أين تكون مصلحة وطنه ، ولا من يطعنه إذ يطعن أخاه في الكفاح وفي الدين وفي الهدف المشترك).
وختاماً ..فإنه يطيب لي أن أؤكد على أن الصومال اليوم في حاجة ماسة الى وسيط أممي بنزاهة كمال الدين صلاح وإستقامته ، إذ أن الصومال اليوم وبعد خمسة و ستين عاماً من قدومه في العام ١٩٥٤ لا زال بحاجة الى نفس تلك الإحتياجات التى لخصها كمال الدين صلاح في المخطط الذي تقدم به الى إيطاليا دولة الوصاية فرفضته جملة وتفصيلا ، والى بعثة الأمم المتحدة التي كانت في زيارة للبلد فتجاهلته هي أيضاً بدورها.
وكانت تلك الخطة تطالب ب :-
١- الإستعانة بخبراء دوليين في كافة المجالات وبدعم من البنك الدولي.
٢- تعليم الأهالي طرق الإستفادة القصوى من مصادر الثروة الطبيعية التي بين أيديهم وهي الزراعة والصيد البحري وتربية المواشي.
٣- الإهتمام بالبنى التحتية ومد الطرق الى جميع مناطق الإنتاج .
٤- تمويل المشاريع الصغيرة وتسهيل عمليات الإقراض والعمل على خلق رأس مال صومالي وطني.
٥- خلق الصناعات التي تقوم على الخامات المتواجدة بالبلاد وإشراك الصوماليين في رأس مالها.
٦- رسم إستراتيجية وطنية للتعليم المهني في الصومال وتعليمهم الصناعات البسيطة.
تلك النقاط الستة هي نفس النقاط الستة التى يحتاجها الصومال اليوم وبعد تلك العقود الستة من التواجد الأممي في الصومال ، وهي الأعمدة الستة التى طالب بها رئيس الصومال السابق حسن شيخ محمود المجتمع الدولي بمساعدته على تحقيقها، ولازالت للأسف نفس مطالب فرماجو، سعيد عبدالله دني، موسى بيحى، وكل من يتربع على أحد عروش السلطة والحكم في الصومال المسكين.
في هذة المناسبة الوطنية العظيمة ، وفي هذة الذكرى العطرة لهذا الدبلوماسي المجاهد الشريف الذي أحبنا وأحب قضيتنا بصدق فبادلناه المحبة والود ، أضم صوتي إلي صوته رغم المدة الزمنية الفاصلة بيني وبينه ، وأطالب المجتمع الدولي ممثلة بالأمم المتحدة بالأفعال لا الأقوال ، وأن يحترم وعوده وإلتزاماته تجاه الصومال… وأن يحترم أيضاً سيادة الصومال ودولته الوطنية.
ويشرفني في هذا المقام أن لا أخفي إعجابي بمقولة جمال عبدالناصر عندما استقبل الوفد الصومالي الذي كان مرافقاً لجثمان الشهيد إذ قال :-(إن لدى مصر ٢٧ مليون كمال الدين وهم مستعدون للإستشهاد من أجل حرية الصومال).. هنا لا يمتلك المرء إلا أن يتحسر على إنحسار الدور المصري وتضاءل نفوذها على المستويات الإقليمية والدولية وأتساءل : هل ستعيد القيادة المصرية ترتيب أولوياتها ؟ وهل سيتم نفض الغبار عن عبقريتها؟.
إن الصومال اليوم بحاجة ماسة إلى وسيط ككمال الدين صلاح، والى زعيم عربي شقيق كعبدالناصر يقف الى جوارنا، ويعيد على مسامعنا تلك الكلمات الناصرية الخالدة.
فرحمة الله على كمال الدين صلاح.. ورحمة الله على جمال عبدالناصر.
*السفير الصومالي السابق لدى اليمن
*مقال خاص لـ”الصومال اليوم”