الصومال اليوم

الرئيس المالي الذي دفع ثمن اختلالات بلده البنيوية

تمت كتابة صفحة جديدة من تاريخ مالي على الهواء مباشرة عندما قدم الرئيس المنتخب إبراهيم أبوبكر كيتا استقالته القسرية، تلك الاستقالة التي تمت تحت جنح ظلام الليلة الفاصلة بين 18 و19 أغسطس الجاري، بعدما اعتقله المتمردون إثر يوم كامل من التوترات بدأت مع تمرّد في مخيم سوندياتا كيتا على بعد 15 كم من باماكو.

ولم يكن الرئيس السابق الذي تجاوز عقده السابع، محظوظا جدا في ممارسة سلطته ببلد تتقاطع فيه جميع أسباب السقوط من فساد وإرهاب وصراع إثني وطائفي، لتنتهي باعتقاله في منزله في منطقة سيبنيكورو، لكنه قال إنه استسلم للجنود لأنه لا يتمنى إراقة الدماء.

فالرئيس المُقال والمنتخب مرتين منذ 2013 أبوبكر كيتا لم ينتبه بشكل جيد إلى تآكل سلطته التي لم يستطع ترميمها وقام متأخرا بإجراء حوار وطني داخلي جمع جل الإثنيات والطوائف المتحركة داخل المشهد المجتمعي المالي ولكن هذا الحوار لم ينجح.

الانقلابات خاصية محلية

بحشرجة بادية على صوته وكمامة تقيه حرج إظهار ملامحه ظهر رئيس الدولة المقبوض عليه من طرف جنود جيشه، على الإذاعة والتلفزيون الرسميين شاكرا، الشعب المالي على دعمه طوال هذه السنوات الطويلة قبل أن يعلن أنه استقال من جميع مناصبه وعن حل الجمعية الوطنية وحكومته، بقيادة رئيس الوزراء، بوبو سيسي، الذي اعتقل في نفس الوقت الذي اعتقل فيه أبوبكر كيتا.

إنه تقليد مالي خالص تلك الانقلابات الدورية على الرؤساء فما يكاد احدهم يستقر على الكرسي حتى يهتز من تحت قدميه بفعل قنبلة أو رشاش من جنود يرتدون زيا رسميا، فبعد سبع سنوات تقريبا من انتخاب إبراهيم أبوبكر كيتا، رئيسا منذ 2013، وهو رئيس وزراء سابق، انتخب مرتين، في قبضة تآكل واضح لسلطته، اعتقله الجنود وجلبوه بالقوة.

هذا البلد، في الواقع، ومنذ استقلاله في عام 1960، لم يتوقف عن إثارة قلق المجتمع الدولي ولاسيما فرنسا، التي بذلت قصارى جهدها للإطاحة بالنظام الاشتراكي لموديبو كيتا، وبعد انقلاب الجنرال موسى تراوري عام 1968 وإقامة نظام ليبرالي تبددت المخاوف إلى حين مع استمرار مظاهر الفساد الذي تورطت فيه أسرة الرئيس تعزز ظهور حركة اجتماعية أدت إلى ظهور الديمقراطية في عام 1991 وصعود ألفا عمر كوناري إلى السلطة.

بعد ثلاث ساعات من الاستقالة القسرية للرئيس، أعلن الانقلابيون أنهم أسسوا اللجنة الوطنية لإنقاذ الشعب، وبرروا تصرفاتهم بعبارات أكثر كلاسيكية بالنسبة إلى هذه المناسبة، بحجة أن مالي تغرق من يوم إلى آخر في الفوضى وانعدام الأمن بسبب خطأ الرجال المسؤولين عن مصيرها.

ووعد الجنود، بحسب المتحدث باسمهم، بإجراء انتقال سياسي مدني من أجل تنظيم انتخابات عامة في غضون فترة زمنية معقولة للسماح لمالي بتجهيز نفسها بمؤسسات قوية، واحترام الاتفاقات الدولية، خاصة مع شركاء مالي، مثل الأمم المتحدة وفرنسا، في إطار عملية حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، أو قوة “برخان” أو جي5 الساحل.

ومع تغييب أبوبكر كيتا عن المشهد السياسي المباشر، نكون أمام حالة عامة في المنطقة تؤكد فشل معظم النخب الحاكمة في الدول الأفريقية المتعددة في تبني صيغة فاعلة لحل التناقضات الاجتماعية والاقتصادية الناتجة عن أزمة الاندماج الوطني مما دفع الكثير من هذه الجماعات نحو اللجوء إلى العنف المسلح واسع النطاق لتحدي سلطات الحكومة ومكانتها داخل النظام السياسي في الدولة.

ما الذي يجري في مالي

الاستراتيجيون في الغرب والشرق يجمعون على أن مالي تواجه منذ شهور أزمة اجتماعية وسياسية خطيرة تقلق المجتمع الدولي بعد أن صعد تحالف متنوع من المعارضين السياسيين والزعماء الدينيين وأعضاء المجتمع المدني بمظاهرات للمطالبة برحيل الرئيس كيتا المتهم بسوء الإدارة.

إنها لعبة التموقع وإعادة الانتشار، فانعقاد الاجتماع الذي طلبته فرنسا والنيجر عجل بظهور العقيد أسيمي غويتا أمام الصحافة في باماكو، عاصمة مالي، وهو محاط بجنود مسلحين كرئيس للمجلس العسكري الذي أطاح بالرئيس كيتا، وأعلن أن البلد في حالة أزمة اجتماعية وسياسية وأمنية و”لم يعد لدينا الحق في ارتكاب الأخطاء”، وكرر لازمة الرؤساء السابقين، “أننا وضعنا البلد فوق كل شيء، مالي أولا”. وتحدث رئيس المجلس العسكري الحاكم بعد اجتماع مع كبار المسؤولين في مقر وزارة الدفاع كاشفا أجندته بأنه “كان من واجبي مقابلة مختلف الأمناء العامين حتى نتمكن من طمأنتهم على دعمنا في ما يتعلق باستمرارية خدمات الدولة”.

ربما اعتقد العقيد وأجوي أن الخطة تسير بشكل جيد واطمأن إلى الجوار والقريب والبعيد فأرسل رسائله بكون مجموعته ليست حريصة على السلطة بل على الاستقرار ولكي يعطي لحركته المسلحة ذلك الغطاء من المشروعية الشعبية والشرعية السياسية في البلاد، ووعد بتنظيم انتخابات عامة في غضون فترة زمنية معقولة للسماح لمالي بتجهيز نفسها بمؤسسات قوية.

ومهما يكن من أمر، فالقصة هي أن الرئيس الجديد يخشى أن يكون ضحية أزمة داخلية مستعصية على الحل، وتتكرر مطالب الحركة الاحتجاجية برحيل المجلس العسكري كما فعلت مع الرئيس المقال منذ شهور، فعلى الرغم من الدعوات إلى الهدوء والتصريحات المطمئنة، تصاعدت التنديدات الأربعاء ضد هذا الانقلاب.

يلقي هذا الانقلاب العسكري بظلال من الشك على استمرار الحركة الاحتجاجية الشعبية القوية التي اتخذت، في الأسابيع الأخيرة، مظهر ثورة حقيقي، على الرغم من تصريحات “اللجنة الوطنية لإنقاذ الشعب”، فالخشية مبررة كما في سوابق أفريقية أخرى.

إدارة الأسرة لشؤون الدولة

مع تنصل المجتمع الدولي بأكمله من الانقلابيين، سيكون على هؤلاء التعامل مع مجموعة من الدول الرافضة لما قاموا به، ورفض الاتحاد الأفريقي تواجد مالي داخل المؤسسة حتى عودة النظام الدستوري مطالبا بالإفراج عن الرئيس أبوبكر كيتا ورئيس الوزراء ومسؤولين حكوميين آخرين اعتقلوا قسرا من قبل الحكومة.

كان على الانقلابيين تهييئ لائحة من الأخطاء والهفوات في حكم الرئيس إبراهيم أبوبكر كيتا، وليس هناك أقرب مما قامت به الأسرة في عهده، فقد استنكر العقيد المتحدث باسم الجيش إسماعيل وأجوي نائب رئيس اركان القوات الجوية، ما أسماه المحسوبية السياسية وإدارة الأسرة لشؤون الدولة، وكذلك سوء الإدارة والسرقة والتعسف.

ولوحظ أن العملية الانقلابية لم تشهد أعمال شغب أو مظاهرات بعد اعتقال أبوبكر كيتا، بل تم استهداف بيته وأسرته وكان الهدف المميز: كريم كيتا، وهو واحد من أحب أبناء الرئيس إلى نفسه والقريب منه نهجا وسلوكا. ويعد كريم كيتا الابن البكر للرئيس المُقال، نموذج المتسلط من وراء ظهر الوالد، كريم في أوائل الأربعينات من عمره، ولد في باريس وتخرج من مدارسها ودرس إدارة الأعمال في بروكسيل وكندا وعاد إلى بلده في العام 2006، حيث كبر معه الشغف بالأعمال والسلطة وهو ما جعله ينتخب نائبا لبلدية باماكو الثانية في عام 2013، بعد فترة وجيزة من انتخاب والده للرئاسة، وسرعان ما أصبح أحد أكثر مستشاريه قربا منه.

الانتقادات الموجهة إلى نجل أبوبكر كيتا تتمحور حول محاباة الأقارب وتضخيم قيم العشائرية على حساب مؤسسات الدولة، وقال علي تونكارا، مدير مركز الدراسات الأمنية والاستراتيجية في منطقة الساحل، “يرى الكثير من الماليين أن ظل كريم يطفو فوق مؤسسات الدولة، حيث يمنح أصدقاءه مناصب ذات مسؤولية عالية لا ترتبط كثيرا بكفاءتهم، وغالبا ما تمر المفاوضات من أجل الحصول على العقود العامة من خلاله أو من خلال أقاربه، ما يعطي الانطباع أن الابن يدير البلاد من وراء ظهر الأب”. وسيتم

توجيه حزمة اتهامات إليه بالتأثير على التسلسل الهرمي العسكري، وعلى منح العقود العامة دون الاحتكام إلى قانون الصفقات العمومية، ورغم أنه يضع مواليه وعشيرته في مناصب المسؤولية للتحلل من أي تبعات فهذا لم يشفع له من الاكتواء بنار الاحتجاجات التي كانت سببا في تنحية والده من الرئاسة.

والأرجح أن طموح الابن السياسي كان سببا إضافيا في خروج الوالد من المشهد السياسي حيث اتهمته المعارضة بالتدخل في تغيير نتائج الانتخابات التشريعية في أبريل الماضي حيث أعيد انتخابه، كما اتهمته المعارضة بالتحكم في فرض أقاربه، مثل رئيس الجمعية موسى تمبيني، وتحت ضغط الشارع وبعدما قتلت الشرطة 12 شابا، أعلن كريم كيتا، الاثنين 13 يوليو الماضي، استقالته من رئاسة مفوضية الدفاع والأمن والحماية المدنية، مع الاحتفاظ على ولايته كنائب.

حالة تأهب من العدوى

هل خشيت الدول المجاورة لمالي من عدوى الانقلاب الذي حصل في مالي؟ قد يكون ذلك صحيحا إلى أبعد حد بعدما أغلقت تلك الدول جميع حدودها المشتركة، ويبدو الانقلاب في باماكو وكأنه تهديد، بل تحذير لرؤساء الدول الذين يرغبون في التمسك بالسلطة. وقد شهدت الكوت ديفوار اندلاع أعمال عنف منذ إعلان ترشيح رئيس الدولة الحالي الحسن واتارا للانتخابات الرئاسية في 31 أكتوبر المقبل، ويُنظر إلى الأحداث في الجارة مالي على أنها إنذار يجب أخذه بعين الاعتبار. فالمعارضة متأهبة لاستغلال كل ما يقع تحت يدها لخلق حالة من التشنج بين الرئاسة والمجتمع.

أدت محاولة انقلابية قبل 18عاما إلى تقسيم البلاد وخلق أزمة سياسية وعسكرية مهدت لعمليات تمرد متواصلة خلال ثلاث سنوات جعل الحكومة الإيفوارية تتعامل ببرغماتية مع مطالب المتمردين، ويدرك الحسن واتارا أن علاقاته مع الجيش يجب أن تبقى متوازنة وحذرة، مدركا للتهديد الذي يمكن أن يمثله غيوم سورو، الزعيم السابق للتمرد والمرشح في الانتخابات الرئاسية.

واليوم يبدو الانقلاب على الرئيس أبوبكر كيتا إشارة واضحة موجهة إلى الرئيسين الإيفواري والغيني اللذين يريدان الترشح لولاية ثالثة، ورسالة تستهدف أيضا الرئيس السنغالي، الذي عبر عن رغبته في الترشح للمرة الثالثة في الانتخابات الرئاسية القادمة.

تضارب المصالح نتيجة لتعارض الأهداف والتوجهات بين أطراف متعددة ومتدخلين جدد هو الذي جعل مالي تعيش وضعا مقلقا وغير مستقر، جعل حالة البلد تتحول إلى ضعف مستمر على مستوى المؤسسات ما أثر في عدم تحقيق سلم اجتماعي دائم، وكثرة الاقتتال وتحويل ثروات البلد وموقعه إلى أداة تخريب ودمار تهدد بلدان المنطقة ككل.

لن تتدخل فرنسا إلا في الإطار الذي يخدم مصالحها في مالي ودول الساحل والصحراء، لهذا تحدث الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بعد الانقلاب، عن الأزمة الحالية مع كل من رؤساء نيجيريا محمدو إيسوفو، والكوت ديفوار الحسن واتارا، والسنغال ماكي سال، للإشارة إلى أنه على نفس الخط مع المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا برفضه الانقلاب.

*صحافي مغربي

Exit mobile version