فجرت اتهامات أديس أبابا للقاهرة بأنها تسعى لتشييد قاعدة عسكرية في أرض الصومال الكثير من الأسئلة حول الدور الذي يمكن أن تلعبه هذه المنطقة في الصراعات الإقليمية المشتعلة، سواء لجهة الأزمة بين مصر وإثيوبيا حول سد النهضة، أو لجهة رغبة تركيا في وضع يدها على أرض الصومال وإبعاد المصريين من المشهد خاصة وأن رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد طوّر علاقات بلاده مع الإقليم، وعقد صفقات اقتصادية عدة مع إدارته، وهو الذي قاد عملية المصالحة مع مقديشو.
أصبحت أرض الصومال في عين العاصفة بين مصر وإثيوبيا، ومحط أنظار الكثير من القوى، ولم يعد الإقليم الذي أعلن عن حكم شبه ذاتي منذ عقدين منبوذا من الحكومة المركزية، واستطاع أن يجذب إليه اهتمام جهات عديدة لما حققه من هدوء أمني، وتطور في معدلات التنمية مقارنة بحالة التردي التي تعيشها غالبية أقاليم الصومال، حيث تعيش على وقع اقتتال وتجاذبات وخلافات حادة.
وقادت التطورات التي شهدتها أرض الصومال إلى اعتذار مقديشو عما ارتكب في حق الإقليم من تجاوزات إبان الثورة على نظام سياد بري وما تلاه من معارك.
وبدت خطوة اعتذار الرئيس محمد عبدالله فرماجو لافتة ومدفوعة من جهات خارجية، حيث تتكالب على الإقليم الكثير من الدول لعقد صفقات مع إدارته الذاتية التي عبرت به الكثير من الصعاب، وحاولت جني أكبر استفادة من موقعه الاستراتيجي في القرن الأفريقي، واستغلال موانئه الحيوية.
رافعة إقليمية لإثيوبيا
أرسلت القاهرة وفدا من وزارة الخارجية إلى هيرجيسا منتصف يوليو الماضي، ولم يتم الإفصاح عن مهمة الوفد السياسية، غير أن بعض الدوائر اعتقدت أن هناك صفقة بين القاهرة وهيرجيسا، تحصل بموجبها مصر على قاعدة عسكرية في أرض الصومال، مقابل أن تلعب دورا في مساعدة الإقليم للحصول على اعتراف دولي.
وانتقد المتحدث باسم الخارجية الإثيوبية، دينا مفتي، الزيارة، وحذر مصر من إقامة قاعدة عسكرية، في وقت لم تتم الإشارة من قبل الأولى عن خطوة حقيقية في هذا الاتجاه، ما يعني أن لدى أديس أبابا مخاوف دفينة نحو القاهرة، فهي دائمة الرفض لأي حضور لها في الدول المجاورة، مع أنها لم تعترض على ما تقوم به دول عدة من توثيق للعلاقات مع الصومال، بعضها يمتلك قواعد عسكرية بالفعل.
ونقلت وسائل إعلامية عن الخبير المصري في الشؤون الأفريقية هاني رسلان إن “مسألة إنشاء قاعدة عسكرية مصرية في صوماليلاند مجرد مشاورات لم يثبت بعد أنها تحولت إلى اتفاق بين الطرفين، وإذا حدث ذلك فلن يكون له تأثير على أزمة سد النهضة فإنشاء قاعدة عسكرية مصرية يقتضي وقتا طويلا”.
وأوضح أن مصر أعلنت أنه ليس بوارد أن تستخدم الحل العسكري لأزمة السد، وبالتالي فأمر القاعدة ينصرف إلى أنها جزء من محاولة مصر العودة إلى القرن الأفريقي الذي كانت تتمتع فيه بنفوذ تاريخي.
وتابع “الرد الإثيوبي على حديث القاعدة دليل على ما تضمره أديس أبابا من عداء شديد لمصر، وهو واضح تماما في أزمة السد، وفي بعض التصريحات الرسمية والتحركات السياسية، ومن ضمن ما يدل عليه هذا المسلك، الشعور المبالغ فيه بأن إثيوبيا تحولت إلى قوة عظمى تتعامل مع الآخرين بقدر من التبجح والتعالي والاستخفاف في حين أن الواقع الفعلي أبعد ما يكون عن ذلك” .
وتغض إثيوبيا الطرف عن الوجود التركي والقطري الكثيف في مقديشو، للدرجة التي تملك أنقرة أكبر قاعدة عسكرية لها هناك، ونسج البلدان علاقات قوية مع حركة الشباب الصومالية الإرهابية، بل إن إثيوبيا، والسودان أيضا، ضبطا شحنات أسلحة تركية مهربة إلى داخل أراضيهما، عبر جيبوتي والصومال خلال الشهر الماضي.
وبحكم الموقع الجغرافي لإثيوبيا، من الصعب على أديس أبابا خسارة أحد أهم ممراتها المائية أرض الصومال بعد جيبوتي، وثمة حلم مشترك بين الطرفين ببناء ممر تجاري يربط بربرة مع أديس أبابا لانعاش الرافعة الاقتصادية للجانبين، وتشكيل قوات بحرية، وهو ما قد يكون نواة لمعادلة للأمن البحري في المنطقة، سوف تثير الكثير من الحساسيات لدى القوى الراغبة في تكريس وجودها.
فخ مياه النيل
في الوقت الذي تتسارع فيه خطوات دول كثيرة على هذه المنطقة، حذّر محللون صوماليون من أن مساعي مصر لتوطيد علاقاتها مع إقليم أرض الصومال محاولة لحرف مقديشو عن موقفها المحايد وجرها إلى ما يوصف بـ”فخ” الأزمة بين القاهرة وأديس أبابا حول مياه نهر النيل.
ويقول المحللون إن القاهرة تكثف الزيارات الدبلوماسية لهرجيسا، عاصمة الإقليم، ضمن جهودها للضغط على إثيوبيا من أجل الاستجابة لمطالب القاهرة بشأن ملء وتشغيل سد النهضة على النيل الأزرق، أحد روافد نهر النيل.
ولفت رئيس مركز هرجيسا للدراسات والبحوث، محمود محمد، إلى أن “مصر كونها دولة محورية في المنطقة تحاول اختبار إمكانياتها للضغط على إثيوبيا، ولو عبر تأخير اكتمال مشروع السد، من خلال زياراتها الدبلوماسية لإقليم أرض الصومال”.
وحول احتمال إقامة قاعدة عسكرية مصرية في الإقليم، استبعد محمد أن “تتحقق مساعي مصر نظرا لارتباط الإقليم الجغرافي والاقتصادي بجارته إثيوبيا”، معتبرا أن زيارة الوفد المصري الأخيرة للإقليم “ربما تأتي من باب المناورة السياسية لحفظ ماء الوجه أمام التعنت الإثيوبي في مشروع سد النهضة”.
وتصر أديس أبابا على ملء وتشغيل السد حتى لو لم يتم التوصل إلى اتفاق مع القاهرة والخرطوم، بينما ترفض الأخيرتان هذه الخطوة من دون اتفاق ثلاثي، ويقود الاتحاد الأفريقي وساطة لحل الأزمة لم تتمخض حتى الآن عن نتائج ملموسة.
وأكد محمد أن “العلاقة المستجدة بين مصر وإقليم أرض الصومال لا يمكن أن تُقرأ بمعزل عن محاولة القاهرة معاقبة مقديشو على موقفها الحيادي من أزمة السد، وجرها إلى الأزمة المشتعلة بين الطرفين، ما يرسم منحى جديدا للعلاقات التاريخية بين الصومال ومصر”.
وتبدل في مارس الماضي موقف الصومال المؤيد لقرار أصدرته جامعة الدول العربية يؤكد على حقوق مصر التاريخية في مياه النيل، ليعلن موقفا محايدا، مع الإعراب عن الاستعداد لمساعدة القاهرة وأديس أبابا في تسوية خلافاتهما سلميا.
وأوضح الباحث في مركز الصومال للدراسات، محمد أبتدون، أن موقف الصومال المحايد، “ربما يدفع مصر إلى اتخاذ موقف سياسي تجاه رغبتها في إيجاد موطئ قدم عسكري في الإقليم، ما ينافي القانون والمواثيق الدولية، فالحكومة المركزية مسؤولة عن هذه المسائل السيادية، وإن كانت في موقف ضعف حاليا بشأن تأمين حدودها”.
واعتبر أن مشروع سد النهضة بات أمرا واقعا بالنسبة لإثيوبيا، وخيارات الضغط على إثيوبيا مفتوحة بالنسبة لمصر عبر قنوات دبلوماسية رسمية، لكن على الصعيد العسكري قد يكلف الأمر القاهرة وقتا أطول مما تحتاجه إثيوبيا لإنجاح مشروع السد، ما يعزز مبررات الأخيرة ويضعها في موقف قد يكسبها المزيد من الدعم لمشروعها التاريخي”.
باحثون مصريون أكدوا إن هناك مبالغة متعمدة لتضخيم زيارة الوفد المصري لهيرجيسا من جانب إثيوبيا ومحاولة الإيحاء أنها هدفت لتشييد قاعدة عسكرية، في رسالة تفيد بوجود نوايا مصرية لاستهداف سد النهضة عسكريا”.
ويضيف هؤلاء، أن هذه اللعبة مكشوفة، لأن القاهرة لم تعلن في أي وقت رغبتها في إنشاء قواعد عسكرية في أرض الصومال أو غيره من المناطق المجاورة، حيث عزفت أديس أبابا منذ نحو شهرين على الوتر نفسه عندما زعمت بعض وسائل الإعلام التابعة لها أن مصر أقامت قاعدة عسكرية في جنوب السودان، الأمر الذي ثبت عدم صحته، ويتكرر الموقف الآن للترويج بأن إثيوبيا مستهدفة من مصر، ما يكسبها تعاطفا في سلوكها المتعنت في ملف سد النهضة.
حديث الاستهداف
في كل مرة تخطو فيها القاهرة تجاه أي من الدول المجاورة لإثيوبيا، مثل جنوب السودان وإرتيريا وجيبوتي، يطفو حديث الاستهداف، وتتعالى أصوات القوة والمظلومية الإثيوبية في آن واحد، ما يشي بأن هناك تعمدا لإشاعة أجواء من التوتر الإقليمي، تستفيد منها قوى مثل تركيا الطامحة لزيادة نفوذها في الصومال.
وكشفت مصادر عسكرية مطلعة، أن مصر تتعامل دبلوماسيا مع سد النهضة، وتخوض مفاوضات مضنية حتى الآن، ولم تحد عن الطريق السياسي، أما حديث إنشاء قاعدة في أرض الصومال فيرمي للضغط على حكومة هيرجيسا، وإنذارها بأن أي تصرف من هذا النوع قد يؤدي إلى إرباكها سياسيا، وينسف معالم الاستقرار الذي حققته، ويدخلها في دوامة من التجاذبات الإقليمية تعرضها للخطر.
وشددت المصادر على أن الإمكانيات العسكرية الجوية والبحرية المتطورة التي يملكها الجيش المصري تغنيه عن القواعد، في حالة ما قرر الاشتباك عسكريا مع أي دولة، فقط تريد القاهرة تحييد إقليم مثل أرض الصومال بعدم الزج بنفسه في أتون معارك إقليمية، لصالح إثيوبيا أو تركيا تحديدا.
وأكد رئيس معهد هيراتيج للدراسات السياسية، عبدالرشيد حاشي، أن الحكومة الصومالية وإقليم أرض الصومال لا يمكنهما حاليا التورط في خلافات إقليمية ربما لا يأمنان ارتداداتها مستقبلا، في حال هدأ غبار الخلافات بين مصر وإثيوبيا.
وأوضح أن التحرك المصري المتأخر ربما لا يدفع الإقليم إلى إدارة ظهره لإثيوبيا بسبب المصالح الاقتصادية والحسابات الاستراتيجية الأخرى، لكنه ليس مستبعدا أن يحاول الإقليم تحقيق مكاسب سياسية مؤقتة عبر إقحام نفسه في هذا النزاع المائي.
وأشار رئيس وزراء إثيوبيا آبي أحمد، إلى كسب شعبية عبر السد في مواجهة أزمات داخلية متصاعدة، عقب تأجيل انتخابات محلية كانت مقررة في أغسطس الجاري إلى أجل غير مسمى، قائلا “إن الوضع الداخلي قد يدفع أديس أبابا للرد على كل خطوة مصرية تجاه المشروع الضخم”.
وبالنسبة لانتقادات التي يوجهها بعض المحللين الصوماليين لمصر، قال رسلان “هي معروفة المصدر والاتجاه سلفا، لأن حكومة مقديشيو تقع في الوقت الحالي تحت الهيمنة التركية، لذلك فالانتقادات تعبر عن التماهي مع مواقف أنقرة التي ينطق بها لسان هؤلاء أكثر من التعبير عن مواقف نابعة من تقديرات أصيلة أو مستقلة”.