انتخابات صومالي لاند وسؤال المصير
في كل حدث انتخابي في جمهورية صومالي لاند المعلنة من طرف واحد، يطفو على السطح سؤالٌ عمّا إذا كانت الانتخابات الديمقراطية والمباشرة كفيلةٌ بتحقيق الاعتراف الدولي المنشود لدى الصوماللانديين منذ ثلاثة عقود، حيث تمثّل انتخاباتها التعدّدية استثناء لافتًا في المنطقة وأفريقيا بأكملها، كما تؤكّده مؤشراتٌ وتصنيفاتٌ دوليةٌ، من بينها مؤشّر منظمة فريدوم هاوس للحريات والديمقراطية.
وقد صادفت الانتخابات البرلمانية والبلدية التي جرت في مطلع شهر يونيو/ حزيران الحالي، والتي فازت فيها المعارضة على الحزب الحاكم، ذكرى مرور ثلاثة عقود من إعلان الانفصال عن الصومال، من دون أن تحقق اعترافا دوليا مباشرا، على الرغم من أن دولا كثيرة تتعامل معها كدولة الأمر الواقع. وبذلك افتتحت دول، مثل بريطانيا وتركيا والإمارات وإثيوبيا وجيبوتي وغيرها، مكاتب تمثيلية لديها. وحدها تايلاند ذهبت بعيدا، وتبادلت الاعتراف الدبلوماسي الكامل مع الطرف الصومالي لاندي، جزءا من سعيها إلى كسر العزلة المفروضة عليها من الصين في وجودها في أفريقيا.
وتقف هذه المساحة على عدة أبعاد سياسية وتاريخية وقانونية تخص قضية انفصال صومالي لاند، وهي أبعادٌ تعود إلى التكوّن التاريخي والسياسي للدولة الوطنية في الأراضي الصومالية من فترة البواكير الاستعمارية، فقد أرست الإدارات الاستعمارية، في أربعينيات القرن الماضي، أسس الدولة الحديثة في المجال الصومالي، من خلال إنشاء مجالس محلية يترأسها زعماء العشائر. ولم تعرف الأراضي الصومالية تاريخيا حكمًا مركزيًا موحدًا يسيطر على جميع أراضيه بشكل كامل، فقد ظلت السلطنات الإسلامية والعشائرية التاريخية تقتصر على رُقع جغرافية محدّدة في تواريخ معينة قبل الاستعمار الأوروبي. وبدورها، لم تؤسّس التجربة الاستعمارية الأوروبية الحديثة أي حكم مركزي موحد في النطاق الصومالي، بل عمد إلى تجزئة الأراضي الصومالية التاريخية إلى خمسة أجزاء: فقد سعتْ كلٌ من فرنسا وبريطانيا إلى السيطرة على طرق الإمداد والنقل في القرن الأفريقي لتأمين قناة السويس، بينما أرادت إيطاليا إنشاء مستعمرةٍ مماثلةٍ لمستعمرة كينيا البريطانية، للظهور بين أقرانها الأوروبيين أنها تنتمي أيضًا إلى الدول العظمى عبر الانضمام إلى نادي القوى المستعمِرة، وقضت هذه المعادلة الاستعمارية بأن أصبحت محميةً صومالي لاند تابعة للحكم البريطاني، بينما استعمرت إيطاليا الجنوب الصومالي، وسيطرت فرنسا على ما تسمى حاليا جيبوتي، بينما تقاسمت إثيوبيا وكينيا إقليمي الصومال الغربي وما سُمي لاحقًا “المقاطعة الشمالية الحدودية” (The North Eastern Provinc) الكينية على التوالي. إلا أنه لم يتبلور مفهوم الدولية الوطنية بصيغته القومية إلا مع وصول لحظة الاستقلال في بداية الستينيات، حيث سارعت صومالي لاند، كأول أراضٍ صومالية تنال الاستقلال، إلى الدخول بوحدة فورية مع الطرف الصومالي الجنوبي، والذي استمر تحت الحكم الإيطالي إلى غاية انتهاء الحرب العالمية الثانية، وبعدها دخل في عهدة أممية. وسارع الطرفان بتشكيل دولة قومية موحدة، تهدف إلى لمّ شمل جميع أجزاء الأراضي الصومالية الخمسة، وهذا ما يرمز إليه العلم الصومالي الذي تتوسّطه نجمة خماسية.
وقد اصطدمت الدولة القومية الصومالية بإشكالات بنيوية عديدة، فضلا عن هشاشة الصيغ السياسية والدستورية، تنضاف إلى ذلك، بطبيعة الحال، التعقيدات الجيوسياسية التي عاشتها الصومال منذ نشأتها إلى لحظة انهيارها، والتي تمثلت بمسألة واقعية الحدود الأفريقية التي لا يمكن المساس بها في المواثيق الإقليمية والقارّية في أفريقيا، وذلك حينما تمسّكت الصومال بمطالبة إقليمين، يقعان في ضمن نطاق سيادة الجارتين، كينيا وإثيوبيا، ما تسبب بحروب إقليمية أنهكت القدرات الاقتصادية والعسكرية للدولة الصومالية، وشكّل عقبة كؤوداً في استقرار الدولة الصومالية مع جوارها.
وقد يصحّ القول، وبقليل من الحذر، إن الحالة الصومالية تشكّل استثناءً عن الإجماع الأفريقي على تقديس الحدود الاستعمارية، فهي إحدى الدولتين الوحيدتين في القارّة (إضافة إلى المغرب) اللتين رفضتا، بشكل قاطع، قبول الحدود الإقليمية إبّان تأسيس دولها الوطنية. ورفض الصومال توقيع جميع المعاهدات الإقليمية الرامية إلى حفظ الحدود الاستعمارية، وبالأخص تلك التي تُعيّن حدودها مع إثيوبيا وكينيا، بسبب الترسيمات الحدودية التي تركتها التجربة الاستعمارية في الأراضي الصومالية، حين عمدَ الاستعمار البريطاني إلى توزيع الأراضي الصومالية التاريخية على دول الجوار هِبات.
ولم يتوقف الوضع الإشكالي لولادة الدولة الجديدة بهذا الحد، بل ظهر على السطح فشل النخب القومية والوطنية الأخرى في إرساء أسس بناء وطني متين، حيث دخلت الكيانات المجتمعية في صراعاتٍ عشائرية وجهوية للاستحواذ على السلطة والمناصب. وتخلّلت العمليات محاولات انقلابية هادفة إلى تفكيك الوحدة كما في شأن انقلاب 1961، الذي قاده ضباط شماليون (من صومالي لاند)، أي بعد عام من تأسيس الوحدة، وشكّلت هذا التجارب بذور الفشل السريع لمشروع البناء الوطني.
ومع دخول الدولة الصومالية في قبضة الحكم العسكري، تأجّجت الانقسامات العشائرية أكثر فأكثر، وخاض سياد بري في فترته حربًا مدمرة مع إثيوبيا في عام 1977، ومن رحم هذه الحرب، تفجّرت المكونات الاجتماعية ضد الدولة. وواجه النظام بالحرب الشاملة والطاحنة الإقليم الشمالي، وقصف المدن بالطائرات. ومن المعروف، في الأدبيات التاريخية، وصف مدينة هرجيسا (حاضرة صومالي لاند) بـ”درسدن أفريقيا”، في إشارة إلى مدينة درسدن الألمانية التي قصفها سلاح الطيران، البريطاني والأميركي، في الحرب العالمية الثانية عام 1945. وهكذا، ونتيجة لانهيار الدولة في الصومال، وانجراف الجبهات الصومالية في أتون حرب أهلية طاحنة، برز انفصال صومالي لاند على السطح نتيجة موضوعية لتلك المقدّمات.
ومنذ إعلانها استرداد سيادتها في عام 1991، سعت صومالي لاند إلى توفير معاير الدول الحديثة وشروطها، وتطالب بالانضمام إلى المجتمع الدولي، بحجّة أنها تقوم على حدود “محمية صومالي لاند البريطانية” السابقة التي نالت الاستقلال فيها في 26 يونيو/ حزيران 1960، وأصبحت دولة مستقلة وذات سيادة، واندمجت بعد ذلك بأيام مع المستعمرة الصومالية الإيطالية السابقة في 1 يوليو/ تموز 1960. وتطالب بإلغاء ذلك الاندماج الطوعي بعد 31 سنة من الاستمرار، واستعادة حدودها الإقليمية لعام 1960.
وتتكئ سردية صومالي لاند على دعاوى سياسية وتاريخية وقانونية وحقوقية عديدة لتبرير الحق في الانفصال. ويعمدون إلى تحاشي مقارنة تجربتهم بالكيانات الكثيرة المطالبة للانفصال في أفريقيا، حيث إنهم يتقدّمون بدعاوى بديلة عدّة، منها: السعي إلى إحياء حق قديم في الدولة، والعمل على انفصال تصحيحي، جاء نتيجة إنكار حقّه في التمثيل الحكومي في حكومة الوحدة. كما يؤولون الثغرات القانونية التي رافقت عملية الوحدة، للتدليل على أن قانون الوحدة لم يكن شرعيا من أساسه. إلا أنه أيًا يكن، من الواضح أنه لا يكفي توفّر المبرّرات التاريخية أو القانونية أو السياسية لإنجاح عملية انفصالٍ ما. وبالتالي، لم تحصل صومالي لاند على اعتراف أي دولة أو منظمة دولية في العالم، على الرغم من حيازتها الشروط الموضوعية لتأسيس دولة وفق اتفاقية مونتيفيديو لعام 1933 بشأن حقوق الدول وواجباتها. والتي تشمل أركانها على أربعة معايير أساسية: سكان دائمون، أراضي محدّدة، حكومة فاعلة، قدرة على الدخول في علاقات مع دول أخرى. وتُحاجج سردية صومالي لاند الانفصالية بأنها توفّر هذا المعايير، ولكن، وكما توضحه نماذج عديدة في العالم، فإن الوفاء بهذه المعايير لا يمنح تلقائيًا الاعتراف كدولة مستقلة، وتجسّد صومالي لاند مثالًا صارخًا لذلك.
أما موقف المجتمع الدولي من انفصال صومالي لاند، فيتّسم بنهج مزدوج؛ فمن ناحية يشيد العالم باستمرار نموذجها السياسي الديمقراطي، لكنه يقف رافضا أمام اعترافها كدولة، على عكس ما انتهج مع حالاتٍ مثل جنوب السودان وإريتريا، حين تدخل المجتمع الدولي والمنظمات القارّية (مثل الاتحاد الأفريقي) لصالح الانفصال، لكن العالم في الوقت نفسه، لا يتحمّس بدفع صومالي لاند للانضمام مرة أخرى إلى الصومال، كما حدث في الحالات الانفصالية التي تدخلت جهات دولية لصالح الدولة الأم، مثل حالة إقليم بيفرا في نيجيريا، حينما اعتبرت المنظمة إعلان انفصاله، في نهاية ستينيات القرن الماضي، مساسًا بالمصالح الأفريقية. وتكرّر الأمر نفسه في جُزر القُمر، عندما نصّب محمد باكار نفسه رئيسا، وأعلن انفصال جزيرة أنجوان في عام 2008. وردًا على ذلك، أعلن الاتحاد الأفريقي خطوة عسكرية ضد الإقليم، بمشاركة قواتٍ من السودان وتنزانيا والسنغال، مع دعم لوجستي من ليبيا وفرنسا، ونجح هذا التدخل العسكري في وضع حدٍ لمحاولة الإقليم بالانفصال.
أما أولوية الولايات المتحدة والقوى الغربية الأخرى في المسألة الصومالية فهي استعادة دولة فاعلة في الصومال، ومحاربة الجماعات الإرهابية والتخلّص من فواعل الما- دون- دولة في المشهد السياسي الصومالي. وتحيل الولايات المتحدة والقوى الغربية الأخرى مسألة الاعتراف باستقلال صومالي لاند إلى الاتحاد الأفريقي. ويتمسّك الأخير بخطّه التقليدي في رفض أي محاولة انفصالية في القارّة. ونعتقد أن على الاتحاد الأفريقي إيجاد مقاربة جديدة للتعامل مع قضية صومالي لاند، تأخذ بالاعتبار بتعقيداتها التاريخية والسياسية والقانونية، خصوصا أنه أرسل بعثة تقصي حقائق إلى الإقليم في 2005، وأوصى تقريرها بأحقية صومالي لاند في الاعتراف بها دولة، إلا أنه لأسباب بقيت مجهولة، لم يرفع التقرير إلى المناقشات الوزارية.
والمثير كذلك أن صومالي لاند والصومال يجريان مفاوضات روتينية ومتقطعّة منذ عقد في عواصم دول الجوار والإقليم. وفي ظننا أنه في حال عدم تدخّل الاتحاد الأفريقي، لكونه المعني الأساسي بالتغييرات السيادية في القارّة، أو أي جهة دولية أخرى، لدفع الطرفين إلى التوّصل إلى تسوية نهائية، سيكون هذا الصراع مرشّحًا للاستمرار. وفي هذا الإطار؛ يطرح بعض فقهاء القانون الدولي سيناريو توجه صومالي لاند إلى أعلى جهة قضائية في الأمم المتحدة، المحكمة الدولية للنظر في قضيته، كما حدث في حالة كوسوفو، ومن الأرجح أن يجد مقبوليةً لقضيته إذا استمعت إليها المحكمة الدولية.
الخطوة الأخيرة بعقد انتخابات شعبية ومباشرة، أقرّت نزاهتها بعثات دولية وقارّية أشرفت على مراقبة حسن سيرها، كافية لطرح سيناريو عقد استفتاء شعبي لتقرير مصير الإقليم. ويعطى هذا الخيار حلا لأزمة مستعصية في القرن الأفريقي لأكثر من ثلاثة عقود، خصوصا أمام الانسداد الكبير لتطبيق مشروع الفيدرالية الصومالية، إلا أنه، من ناحية أخرى، كذلك، ستعني عقد الانتخابات البرلمانية والبلدية الكثير من ناحية تعزيز مبدأ محاسبة الحكومة، بعد فوز أغلبية المعارضة في البرلمان. ومن شأن هذا أن تعزّز العملية الديمقراطية في دولة استثنائية، قلّما يلتفت العالم إلى تجربتها.