فرنسا تُسلم مفاتيح الساحل الأفريقي إلى الجهاديين
الخطوة التي اتخذها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بسحب قوات بلاده من منطقة الساحل الأفريقي تبدو مجازفة لأنها بمثابة إعطاء الجهاديين مفاتيح السيطرة على المنطقة خاصة في ظل عجز كبير للقوات المحلية، ليس فقط بسبب نقص عديدها أو مستوى التدريبات التي تتلقاها لمواجهة الجماعات المتطرفة، بل أيضا سوء إدارة حكومات المنطقة لهذه القضية الحساسة خاصة أن معظم تلك الدول تشهد قلاقل بين الفينة والأخرى.
اختار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تجنب حالة الجمود بإعلانه مساء الخميس إنهاء عملية برخان العسكرية لمواجهة الجهاديين مفضلا المشاركة في ائتلاف دولي يدعم القوات المحلية، وهو رهان من دونه ستزداد المخاطر بشكل أكبر مع جيوش لا تزال ضعيفة في منطقة الساحل والصحراء في أفريقيا، ومهمة صعبة لحشد التأييد الأوروبي.
وفتح قرار ماكرون إنهاء عملية برخان في الساحل الباب على مصراعيه حول الأسباب الكامنة وراء الخطة. فعلى الرغم من أن القوات الفرنسية تعرضت لنكسات عديدة في السنوات الأخيرة إلا أنها كانت عبارة عن البوصلة التي تحدد اتجاه وخطط وإستراتيجية ملاحقة المتشددين المسلحين.
وهذا التمشي الجديد الذي يأتي على خلفية تسارع تطورات الأحداث في تلك المنطقة وأيضا بسبب تجديد باريس إستراتيجية إعادة انتشار قواتها في أفريقيا يبدو محفوفا بمخاطر جمة لأنه سيفتح الباب أمام الجماعات المتطرفة لإعادة تحديد خارطة توسعها وربما لن تقدر أي حكومة في منطقة الساحل على مواجهتها مستقبلا.
بعد ثماني سنوات من وجودها المستمر في منطقة الساحل حيث ينتشر اليوم 5100 من عسكرييها، تريد فرنسا الآن الانتقال من مكافحة الجهاديين في الخطوط الأمامية إلى الدعم والمرافقة بالاعتماد على العمليات الاستخباراتية واستخدام المسيرات والطائرات المقاتلة وغيرها كما تفعل الولايات المتحدة، وهي طريقة لتقليل المخاطر وإجبار دول المنطقة على تحمل مزيد من المسؤولية في الحفاظ على أمنها.
وتعود بداية عملية برخان إلى الانتشار الفرنسي الأولي في يناير 2013 حين سعت باريس لمعالجة انعدام الاستقرار المتزايد في المنطقة الذي تسبب فيه مسلحون إسلاميون. ومنذ توليه الرئاسة حاول ماكرون إقناع الحلفاء الغربيين بالمساعدة في تحمل عبء المعركة ضد الإرهاب لمنع المتطرفين الإسلاميين من استغلال الغضب إزاء الفقر والحكومات غير الفعالة.
وينتظر ماكرون نقاشات نهاية يونيو الجاري مع شركائه الأوروبيين والجزائر والأمم المتحدة لتقديم تفاصيل حول خطة العمل الجديدة. لكن وفق المشروع المدروس تعتزم فرنسا مغادرة قواعد في شمال مالي في مناطق تيساليت وكيدال وتمبكتو بحلول نهاية عام 2021 لتركيز وجودها على طريق غاو وميناكا، أي قرب ما يسمى منطقة “المثلث الحدودي” بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وكذلك في نيامي عاصمة النيجر.
وسيجري خفض عديد العسكريين الفرنسيين تدريجيا ليصل إلى نحو 3500 في غضون سنة ثم 2500 بحلول عام 2023، وفق مصدر مطلع على الملف. ومن المقرر إبقاء قوات النخبة من فرقة “سابر” الفرنسية لمواصلة ملاحقة قادة الجهاديين.
ومن الواضح أن باريس تريد من شركائها الأفارقة دورا أكبر في عمليات مواجهة الجهاديين بسبب تكبدها بمفردها الخسائر الأكبر في العتاد والرجال، ومن المؤكد أن أي خطوة لتخفيض قواتها في الساحل الأفريقي ستورط دولا مثل مالي والنيجر في مواجهة المتشددين.
وسارعت وزيرة الجيوش الفرنسية فلورنس بارلي إلى التأكيد بعد يوم إعلان ماكرون قرار الانسحاب من منطقة الساحل على أن الالتزام العسكري الفرنسي “سيظل كبيرا جدا”، وقالت “علينا محاربة المجموعات الإرهابية ومواصلة هذا العمل الذي سيسمح للقوات المسلحة لدول منطقة الساحل بأن تكون في وضع يمكنها من الرد والتصدي”.
وظل حزام الساحل الأفريقي الذي يفصل شمال القارة عن بلدان جنوب الصحراء الكبرى وهي موريتانيا وتشاد ومالي والنيجر وبوركينا فاسو، إلى حد بعيد خارج مجال الرادار الدولي رغم الجهود التي تقودها فرنسا ضمن قوة برخان لمكافحة التهديدات الإرهابية.
وبدأ التحول في الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل العام الماضي مع تشكيل مجموعة “تاكوبا” من القوات الخاصة الأوروبية بمبادرة من باريس بهدف توفير فرق صغيرة من الضباط لدعم الوحدات المالية في القتال. وهذا البرنامج يقوم على شراكة عسكرية مماثلة لفرق المرشدين الغربيين التي تم نشرها في أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين لدعم القوات الأفغانية.
وتتركز “تاكوبا” في منطقتي غاو وميناكا الماليتين، وتضم الآن 600 عنصر نصفهم فرنسيون، بالإضافة إلى عشرات من الإستونيين والتشيكيين ونحو 140 سويديا. وتعهدت إيطاليا بالمساهمة بما يصل إلى 200 عنصر، ووعدت الدنمارك بمئة، فيما أبدت دول أخرى بينها اليونان والمجر وصربيا اهتمامها.
لكن بعد الانقلاب الثاني في مالي في مايو الماضي جمدت فرنسا عملياتها المشتركة مع القوات المالية بما في ذلك مع قوة “تاكوبا”. ومن المرجح أن يؤدي التعليق إلى ثني الدول الأوروبية عن المساهمة إذا استمر فترة طويلة.
وترى فرنسا أنها ستنجح في جمع عدد متزايد من المساهمين، وقد أكد مسؤول عسكري أن “الأوروبيين صاروا أكثر إدراكا للرهانات الأمنية في منطقة الساحل، لاسيما في ما يتعلق بالهجرة”، لكن التدخلات العسكرية حساسة سياسيا في معظم الدول الأوروبية التي تحتاج إلى موافقة من برلماناتها، وقد تفرض أحيانا قيودا على المهام الموكلة إلى قواتها.
وثمة سؤال آخر يطرحه كثير من المراقبين والخبراء العسكريين يتعلق باحتمال مشاركة البريطانيين الذين قدموا حتى الآن دعما قيما لبرخان مع مفرزة من مروحيات “شينوك” الثقيلة.
اختبار للجيوش المحلية
تبدو القوات المشتركة لدول الساحل الخمس التي تشكّلت في العام عام 2017 عاجزة أمام تصاعد قوة هذه الهجمات في ظلّ تنافر هذه القوات ونقص تسليحها وسوء تشكيلها، فضلا عن تأخر دفع مساعدات وعد بها المجتمع الدولي. ولم تتلق القوة المشتركة سوى 300 من أصل 400 مليون دولار تم التعهد بها العام الماضي.
وينظر العديد من السياسيين والخبراء العسكريين الغربيين إلى منطقة الساحل والصحراء على أنها تمثل خطرا كبيرا بسبب القوة المتزايدة للجماعات الجهادية هناك، فضلا عن موقعها كمفترق طرق لتهريب الأسلحة والبشر.
وتمثل خطة العمل الفرنسية الجديدة قبل كل شيء اختبارا للجيوش المحلية التي ستجد نفسها في طليعة الجهد الأمني. وقد حذّر قادة محليون في المنطقة من أنهم سيتعرضون إلى مصاعب شديدة لمنع الجماعات المتطرفة المدججة بأنواع مختلفة من السلاح والطائرات المسيرة من تحقيق المزيد من الانتشار في حالة الانسحاب الفرنسي السريع.
ويتوجس قادة بوركينا فاسو والنيجر وتشاد ومالي من تصاعد المخاطر خاصة بعد أن قُتل رئيس تشاد المخضرم والحليف المقرب للفرنسيين إدريس ديبي في شهر أبريل الماضي، بينما تسبب انقلاب في مالي في تدهور العلاقات مع باريس بشدة.
وعلى الرغم من جهود التدريب الكبيرة في السنوات الأخيرة، فإن القوات المسلحة لمالي والنيجر وبوركينا فاسو، وهي من بين أفقر البلدان في العالم، لا تزال تعاني نقصا في التدريب والتجهيز وتستهدفها هجمات جهادية متكررة. كما أن تلك الجيوش متهمة بارتكاب انتهاكات ضد السكان المحليين.
وأكدت بارلي الجمعة أنه “حان الوقت لأن القوات المسلحة لمنطقة الساحل أصبحت الآن تتمتع بقدرة أكبر على مواجهة أعدائها” في إشارة إلى عمليات كبيرة في الخريف والشتاء الماضيين شكلت خلالها الجيوش الفرنسية والساحلية مجموعة من الآلاف من العناصر الذين قاتلوا معا.
وتعتبر باريس أن الكرة صارت في ملعب الشركاء المحليين. وهنا يقول ضابط فرنسي رفيع لوكالة الصحافة الفرنسية لم تكشف عن هويته، إنه من الآن فصاعدا “سيكون من الضروري أن يبلغنا الماليون والنيجيريون والبوركينيون والقوة المشتركة لمجموعة الساحل بعدد الوحدات التي يمكنهم نشرها، حتى نتمكن من تحديد احتياجات الدعم في القتال”.