منذ برز محمد عبدالله فرماجو شخصية سياسية هامة في المشهد الصومالي، عند اختياره رئيساً للحكومة الانتقالية عام 2010، أصبح شخصية جماهيرية، أكسبته لاحقاً تعاطفاً منقطع النظير من الصوماليين، بعد إرغامه على الاستقالة عام 2011، بموجب اتفاقية كمبالا التي وقع عليها الرئيس الصومالي الأسبق، شريف شيخ أحمد، ورئيس البرلمان آنذاك، شريف آدم، بوساطة من الرئيس الأوغندي، يويري موسيفني، من أجل احتواء الخلافات، وتمديد فترتيهما عاما إضافيا لتنظيم انتخابات نيابية ورئاسية عام 2012، حيث تظاهر أنصار فرماجو في شوارع مقديشو، رفضاً لهذه الاتفاقية التي أطاحت رئيس حكومة كان يعد بالكثير، من قبيل بناء الجيش وصرف رواتبه. ومنذ ذلك الحين، كانت شخصية فرماجو عند رجل الشارع الصومالي البسيط محرّمة من التطاول والمس، كونه يحمل أجنداتٍ وطنية، ويرفع شعارات الاستقلالية والسيادة.
هذه الشعارات التي تراكمت في نفوس كثيرين تُرجمت أيضاً في تظاهراتٍ مؤيدةٍ لفرماجو، بعد فوزه بالانتخابات الرئاسية عام 2017، حيث خرج آلاف من الصوماليين في ميادين كثيرة، ابتهاجاً بتنصيبه رئيساً للبلاد، وهو ما كان بالنسبة لكثيرين الأمل الوحيد في تحقيق تطلعاتهم، وفي مقدمتها فرض العدالة وتوفير فرص العمل وبناء الجيش، وتحقيق الأمن في بلدٍ عزّت فيه رياح السلام منذ عقود، ولكن مشاهد أخرى وسياسات جديدة طفت على السطح في مرحلة فرماجو رئيسا، غير التي لم يكن أنصاره يتوقعونه، فلا شيء تغير سوى اسم الرئيس، فالأوضاع الأمنية ازدادت تدهوراً، وكذلك الاقتصاد المترنّح بموجات جفافٍ تارّة، وفيضانات تجرف المنتوجات الزراعية تارّة أخرى، بينما ابتلع الجراد ما تبقى من الخضرة التي أفلتت من الفيضانات والجفاف، وكذلك هوت مكانة الصومال الخارجية في شرك تحالفاتٍ جديدة، لم تكن من قبل حليفاً استراتيجياً للصومال، وبدا التخبّط يشوّش رؤيتها، إذ تعادي جيبوتي (الصومال الفرنسي) التي تربطها بصلة الدم، وتستنجد بإريتريا التي تقف على النقيض مع جيبوتي، بسبب خلافات حدودية.
وعلى الرغم من أن بعضهم يبرّر أن فرماجو ورث تركة ثقيلة من التراكمات السياسية والإدارية والفساد المالي الذي نخر جسد الدولة الهشّة، كما ينخر السوس في العظام، إلا أن إدارة فرماجو طوال أربع سنوات لم تكن أفضل من سابقاتها في مكافحة الفساد وتعزيز دعائم الأمن وبناء مؤسسات الدولة، وهيكلة الجيش، والذي يعدّ تحدّياً أمنياً واستراتيجياً بالنسبة للحكومات الصومالية منذ عام 2009، فكل الوعود في إعادة تأسيس المؤسسة العسكرية اصطدمت بصخرة التحدّيات والتقسيمات العشائرية في البلاد. وهو ما يعزّز حجة معارضيه بأن فرماجو لم ينجز شيئاً يذكر سوى دخول تحالفاتٍ استراتيجيةٍ لم تكن الصومال طرفاً فاعلاً فيها، أو مستفيداً بلغة الأرقام وحسابات الجيوبوليتيك.
توظيف الخيانة والعمالة في مقارعة منتقدي الرئاسة الصومالية من المعارضة السياسية هو إشكالية تكبر هالتها مع مرور الزمن، وهي مصطلحاتٌ استخدمت لترويجها في الماكينات الاجتماعية وإسقاطها على المعارضة السياسية التي من بينها رؤساء سابقون في البلاد، فهي توصيفاتٌ لا تليق بشخصياتٍ سياسيةٍ أرادت تصويب معادلة المسار السياسي في البلاد، لكنها تلقت تشويهاً، بل وتهديداً لحياتها. وما حدث في 19 فبراير/ شباط الماضي، بعد تفريق مظاهراتٍ سلميةٍ بالرصاص الحي، دليل قاطع على مدى تخويف المعارضة السياسية، ومحاولة إسكاتها، وهي التي رفعت وتيرة خطابها العنيف ضد الرئيس فرماجو، بوصفه “دكتاتورا” يريد الانقلاب على الديمقراطية الوليدة في الصومال، وهو ما يعكس أن كيل التهم بين الجانبين أخذ مساره، الأمر الذي أجّج لاحقاً خطاباتٍ تحمل أولى بصمات العنف واندلاع مواجهات متقطعة في مقديشو، والتي دفعت مئات الأسر إلى النزوح من منازلها، خشية امتداد الحرب إلى أحيائها التي غالباً ما تمثل حلبة الصراع بين المسلحين الموالين للمعارضة والقوات الصومالية.
بعث تجدّد المواجهات في مقديشو بعد نحو عشر سنوات الرعب في قلوب المواطنين، ودفع عديدين من سكان العاصمة الذين قدموا من المهجر لمغادرة مقديشو، كما أقلقت المجتمع الدولي الذي رفض بشدة تمديد تفويض البرلمان والرئيس الصومالي الذي أثار كل هذه الزوبعة الأمنية والسياسية في البلاد، وكاد أن يعيد الصومال إلى شبح الحرب الأهلية، لكن تخلّي البرلمان عن قرار التمديد عنوة، وتحت ضغط محلي ودولي، أصبح انفراجةً لتبديد الاحتقان السياسي، لكن مسائل عالقة لا تزال تكمن في التفاصيل، خصوصا في استيفاء مطالب ولايتي بونتلاند وجوبالاند التي هي الأشبه بشروطٍ تعجيزيةٍ لا نهاية لها، وكانت بونتلاند بمنزلة غصّةٍ في حلقوم الحكومات الصومالية المتعاقبة منذ العقد الأخير. أما جوبالاند فطرأت حساباتها منذ تشكيل هذه الولاية عام 2015، وتبدو أنها تقلد مسار بونتلاند في تشكيل شوكةٍ في خاصرة الحكومة المركزية في مقديشو، حيث إن الولايتين شبه منفصلتين عن الحكومة المركزية في مقديشو، كونهما تتمتعان بميناء تجاري، يدرّ لهما دخلاً جيداً يمكنهما من الاستقلالية عن إدارة مقديشو، فضلاً عن تحالفهما مع أبوظبي التي تنفذ مشاريع في بونتلاند منذ عقود.
التظاهرات التي جابت شوارع مقديشو، وخصوصا في المناطق التي سيطرت عليها الفصائل المسلحة الموالية للمعارضة، عكست تغيراً في صورة فرماجو الشعبية، إذ هتف بعضهم برحيل فرماجو، بدل أن يغرق مقديشو في وحل الدم مرة أخرى، بينما الصور التي تناقلتها وسائل الإعلام عام 2017 أيام تنصيبه رئيساً لا يزال هذا المشهد باقياً لدى بعض الصوماليين، بينما يستحضر أخرون إحراق صورته، والهتافات التي ثارت ضده في الاحتجاجات التي شهدتها مقديشو أخيرا. ولعل السؤال هنا يرد: لماذا خرجت تلك الاحتجاجات في الجيوب التي استولت عليها المعارضة؟ تبرّر ذلك بأن المظاهرات السلمية قُمعت، وواجهت الرصاص الحي قرب المطار في فبراير/ شباط الماضي، وهو ما عكس أيضاً خنقاً للحريات والاحتجاج السلمي الذي كان مشروعاً في فترة حسن شيخ محمود الذي كان يواجه أيضاً كل التهم التي تسرد اليوم بحق فرماجو.
يفسّر بعضهم أن إلغاء البرلمان قرار التمديد للرئيس مطلع مايو/ أيار الجاري انعكاس حتمي عن الدولة الهشّة في الصومال، والتي لا تستطيع إحكام قبضتها الحديدية على معارضيها، على غرار الأنظمة الدكتاتورية الأخرى أفريقياً وعربياً، والتي تمدّد فترة حكمها مدى الحياة، لكن عملية الضعف وهشاشة بنية الدولة تجذّرت في منظومة الجيش القابلة للتفكّك بين عشية وضحاها، حيث أعلن جنود عسكريون عن رفضهم التمديد، وواجهوا القوات الأمنية والشرطة بالرصاص الحي، ما يوحي أن بناء الجيش كان مجرّد دعاية فارغة، وأن التقسيمات العشائرية والمناطقية لا تزال تهيمن على هذا الجيش الذي لايحمل ولاءً للدولة، بقدر تبعيته المفرطة للقبيلة التي بات تأثيرها بارزاً على حساب بناء الدولة واستعادة هيبتها منذ عقود.
يبدو الرئيس الصومالي، محمد فرماجو، المنتهية ولايته، اليوم شخصيةً جدليةً أكثر من أن يكون رجلاً توافقياً في المشهد الصومالي. وهبطت حظوظ فوزه بولاية رئاسية ثانية. قبل 8 فبراير/ شباط، كان يمتلك أوراقاً ربما قد تمكّنه من العودة إلى القصر الرئاسي. وأما وقد فشلت خططه في تمديد ولايته عامين إضافيين، فإن خيبات الفشل ستلاحقه يوماً بعد آخر، ما لم يتبنَ الرجل سياسةً أكثر اتزاناً في محاولة كسب وُد خصومه، وتوظيف إنجازاته الميدانية لكسب شعبيته من جديد، قبل حلول موعد الانتخابات الرئاسية غير المقرّرة بعد.