الصومال اليوم

مرتكزات جديدة للسياسة الخارجية المصرية

كشفت الأزمات الإقليمية التي تواجهها مصر أنها بحاجة إلى سياسة خارجية جديدة، فقد نجحت في نسج شبكة كبيرة من العلاقات مع قوى متعددة لكنها لم تنعكس بشكل إيجابي عليها أو تسهم في تسهيل مهمة حل المشكلات التي تتعرض لها، فلا تزال غالبيتها معلقة أو ساكنة. 

ما يحدث من تطورات في النظامين الإقليمي والدولي انعكس على مصر وغيرها، حيث لعبت كثافة الصراعات دورا في الحد من القدرات التقليدية للسياسة الخارجية، وأثر تشابك النزاعات وتنوع أطرافها على حيوية الدولة في جني ثمار سريعة، ناهيك عن التحول في خطط قوى كبرى، كالانسحاب من التوترات والانخراط فيها. 

ثمة تغيرات كثيرة في المنطقة أرخت بظلالها على موازين السياسة الخارجية في الإدارة المصرية، لكن هناك عنصرين لافتين لهما تأثيرات أكبر، يفرضان على القاهرة ضبط تصوراتها بعد تقليل الاعتماد عليهما، الأول التذبذب في العلاقات مع الولايات المتحدة، والثاني الخلل الظاهر في المنظومة العربية، جماعة وفرادى. 

في تفصيل كل عنصر تتضح الكثير من المحددات التي تؤكد حجم التغير الذي حدث، وما يمكن أن يؤدي إليه من تطورات في السياسة الخارجية لمصر، وما يفرضه من طقوس جديدة كي تتمكن من أن تتواءم مع التحولات المقبلة، وربما تضطرها المستجدات إلى تبني إستراتيجية مختلفة عما عهدته طوال العقود الخمسة الماضية. 

بالنسبة إلى العنصر الأميركي لم تعد واشنطن الرافعة التي تستند عليها القاهرة، وتأسس قوامها مع توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل وتوابعها السياسية والأمنية، فإدارة الرئيس جو بايدن تميل إلى الاحتفاظ بمسافة عن مصر، مع التسليم بالثوابت التي تأخذ منحى عسكريا، ما يعني أن هناك تباينا في التفاصيل على الصعيدين الداخلي والخارجي. 

دعك من الارتباك الذي تمر به الإدارة الأميركية حيال القضايا التي تتعامل معها، وركز على أنها لا تدعم التصورات المصرية، أو بمعنى أدق لا تقف معها في خندق واحد في الملفات الخلافية، وإن بدت في الملف الفلسطيني قريبة من رؤيتها بشأن حل الدولتين، غير أنها لم تتخذ من التصرفات ما يدعم هذا التوجه. 

واجهت القاهرة معاناة في ليبيا خلال عهد إدارة الرئيس دونالد ترامب الذي قيل إنه أكبر داعم لمصر في حينه، واضطرت إلى الانفتاح على قوى مختلفة للتنسيق معها، وكانت واشنطن إحداها، ولا يزال الموقف مستمرا على النمط المتذبذب، وربما يتغير سلبا إذا وجدت الولايات المتحدة الحاجة لمضايقة مصر. 

تكرر الموقف نفسه مع أزمة سد النهضة، فمع أن القاهرة تدرك قوة الدور الأميركي وقدرته على ممارسة ضغوط على إثيوبيا، غير أن إدارة بايدن تعزف عن المساعدة في حل أزمة مستعصية تصطحب معها روافد تؤثر على مصر وتصرفاتها الخارجية، وفي حالة تبني خيار خشن فقد تجد نفسها في صدام ممتد مع واشنطن. 

أيقنت القاهرة أن أدواتها الغربية عموما يصعب التعويل عليها في المساندة أو المساهمة في حل الأزمات الخارجية التي تتعرض لها، وبعضها وجودي، ما يؤدي إلى الاتجاه نحو قوى مثل روسيا والصين، لأن غالبية الدول الأوروبية الفاعلة تتمسك بالدوران في فلك الولايات المتحدة، والهامش المستقل الذي تتحرك فيه لن يسمح لها بتحقيق فائدة للقاهرة. 

تأتي المشكلة من أن أي التفاتة سياسية كبيرة ناحية روسيا والصين تقود إلى تغيرات في توازنات القوى بالمنطقة، فنجاح القاهرة في الانفتاح عسكريا على قوى متناقضة من الشرق والغرب جاء ضمن سياقات خاصة بمعادلة تجارة السلاح، والتي تكون مقبولة عند حدود معينة، بينما خروجها عن الحد المسموح به في نوعيات التسليح والمعدات يجلب ضغوطا، والمثل الظاهر على ذلك التحذيرات التي وجهت للقاهرة بعد توقيع اتفاقيات مع موسكو للحصول على طائرات سوخوي المتطورة. 

يبدو الوضع بالنسبة إلى السياسة الخارجية أبعد ما يكون عن الانحيازات المعروفة، لأن تبني مواقف داعمة لمصر يجبرها على دفع ضريبة باهظة، فلا توجد دولة تقدم صكوك غفران مجانية في ظل الحرص البالغ على تعدد جبهات الحركة عقب انهيار الأفكار التي انطوت عليها سياسة المحاور التقليدية. 

فقد تكون هناك دولة متفقة مع دولة ثانية في ملف معين ومختلفة معها في آخر، فالدعم الكلي الحاسم على القواعد الأيديولوجية انتهى تقريبا في العالم، ما يستلزم تضحيات في التصورات تنطلق من عملية تبادل المصالح، وهو ما تجد مصر نفسها أمامه إذا أرادت إرساء العطاء على روسيا مثلا، وتحمل تبعات الخروج عن الطوق الأميركي. 

موسكو التي تستمتع بالضغوط الخارجية الواقعة على القاهرة يمكن أن تجدها فرصة لإعادة صياغة العلاقات معها بما يقربها من علاقتها مع النموذجين الإيراني والسوري، أو حتى التركي الذي حقق نجاحا لكليهما، مع مراعاة الفروق النسبية في التصرفات التي تتبناها أنقرة في مناطق عدة ولا تنسجم مع المعادلة التي تقيمها القاهرة لنفسها في السياسة الخارجية وتتمسك بعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى. 

أما بالنسبة إلى الدائرة العربية، فالملاحظ أن المحيط الخليجي الذي كان أحد صمامات الأمان ومن الثوابت المركزية في السياسة المصرية بدأ يتغير، خاصة مع كل من السعودية والإمارات، وظهر التباعد في إدارة الأزمة مع قطر وتركيا، وتعزز مع إيران، حيث حافظت مصر على علاقتها هادئة مع طهران وذيولها في المنطقة. 

أسهم تسريع وتيرة العلاقات بين دول خليجية وإسرائيل، دون تنسيق مع مصر، بدور بالغ في الفجوة الراهنة، وجعلها تعيد التفكير في شبكة الأمان المشتركة، لأن كل تقدم تحرزه إسرائيل على مستوى التطبيع وامتداداته يعد خصما من رصيد حركة القاهرة الإقليمية، وعليها البحث عن أطر جديدة تمكنها من تعويض فقدان هذه الشبكة مستقبلا. 

زادت الأزمة مع خيبة أمل الرهان المصري على السعودية والإمارات في الضغط على إثيوبيا لتخفيف تعنتها في أزمة سد النهضة، حيث ضخ البلدان استثمارات هائلة للاستفادة من النتائج التنموية الناجمة عنه، وظهرتا كأنهما مرتاحتان للورطة التي تعيشها مصر، ما يدفعها للتفكير في استدارة كبيرة، إذا استمر الحال على ما هو عليه. 

تتجه بوصلة التفكير المصري نحو الانفتاح على العراق، وتعزيز العلاقات مع الأردن، وتوطيدها مع السودان، والنظر بعيدا إلى دول المغرب العربي، لتمتين أعمدة السياسة الخارجية لمصر، لكن هذه الدول لديها مشكلات عميقة لن تسمح لها بمساعدة القاهرة، بل هي تنتظر مساعدات مادية ومعنوية قد لا تستطيع مصر توفيرها. 

تفضي النتيجة الطبيعية لهذه التعقيدات إلى تحلل تدريجي من الالتزامات العربية، ما يعني انزواء نحو الداخل، بما يضر بالمصالح المصرية التي تتسع انتكاساتها مع كل انكفاء، لذلك عليها البحث عن أطر منتجة تمثل روافع جديدة في سياستها الخارجية. 

*كاتب مصري 

Exit mobile version