بدم بارد وبتبجح مفضوح، لم يعد نظام رجب طيب أردوغان يخفي مساعيه لإعادة حقب استعمارية ولى عليها الزمن، حتى بات جنوده يدنسون بقاع قارة أفريقيا ساعين في أرضها فساداً.
وتحت وهم الخلافة، أزاح نظام أنقرة الستار عن مساعيه للهيمنة على أفريقيا والوقوف بتبجح في وجه كل دولة عربية تحاول الدفاع عن وطن يمتد من “المحيط للخليج”.
وكان الدكتور أنور بن محمد قرقاش، وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية، لقّن مطلع الشهر الجاري، وزير دفاع تركيا درسا دبلوماسيا بعد أن حمل الأخير ادعاءات باطلة بشأن دور الإمارات في ليبيا التي أغرقتها أنقرة بمرتزقة وإرهابيين في محاولة بائسة لسرقة البلد الغني بالنفط إثر فقدان نظام أردوغان نفط داعش الذي تاجر به لسنوات على حساب آلام السوريين.
ويعرف القاصي والداني أن أنقرة جنّدت جميع معاولها وأذرعها، وأعلنت الهجوم الحقيقي على أفريقيا في 2005، ثم قامت بتأمين ممر عبورها عبر تعزيز علاقاتها على المستوى المؤسسي للقارة، وتمتين تمثيلياتها الدبلوماسية على أراضيها، وهو ما منحها مجالات واسعة للاختراق والتجسس والمناورة والنهب.
لا يخفى على أحد أن التخطيط للهجوم التركي على القارة السمراء بدأ منذ 2003، حين كان أردوغان رئيسا للوزراء، واستمر بنسق متصاعد حتى بعد توليه الحكم في 2014، وانطلاق رحلة تهاوي المؤشرات الاقتصادية لبلاده جراء سياساته التوسعية.
حينها، أدرك أردوغان أن استنزاف أفريقيا يمنحه مفاتيح النجاة من ارتدادات أدائه الباهت داخليا، ويقدم له كنوزا تمول غزواته الخارجية، فكان أن أطلق نشرة فرنسية تابعة لوكالته الرسمية، تعنى بالشأن الأفريقي بالأساس، ثم بدأ رحلات سفاري سياسية قادته إلى نحو 30 دولة أفريقية.
تحركات حثيثة مغلفة بأطماع خبيثة من أجل اكتساب الثروة والنفوذ في القارة الأفريقية، تجلت بشكل أوضح في 2005، حين أعلنت أنقرة أنه (عام أفريقيا)، وأجرى خلاله أردوغان، بصفته رئيسا للوزراء حينها، زيارة إلى إثيوبيا وجنوب أفريقيا وتونس والمغرب.
في الأثناء، حاولت أنقرة التغلغل بمفاصل مؤسسات القارة السمراء، وحصلت في أبريل/نيسان من العام نفسه، على صفة مراقب لدى الاتحاد الأفريقي، ما منحها تموقعا سهل مخطط الاختراق والاستنزاف.
مسار استعماري بامتياز وفق خبراء ممن يستغربون النشاز الناضح من الاستراتيجية التركية حيال القارة السمراء، فمن ناحية تنتقد المستعمرين التقليديين، فيما تسارع بدورها للانقضاض على ثروات القارة والاستيلاء عليها، في استعمار مدثر بعباءات مختلفة.
أداة جديدة للاستعمار
مع الرؤية العثمانية الجديدة التي يقودها أردوغان، أعدت أنقرة، في 2003، ما أسمته بـ”استراتيجية تنمية العلاقات الاقتصادية مع البلدان الأفريقية”، بهدف معلن وهو الاستيلاء على المواد الخام، وتعزيز العلاقات التجارية مع القارة السمراء.
لكن، ورغم الجهود الحثيثة من الجانب التركي، ظلت العلاقات فاترة غير قادرة على تجاوز حاجز تفرضه العديد من العوامل، بمقدمتها غياب نقاط تقاطع، والتاريخ المشترك، والفجوة الثقافية الصارخة بين الجانبين، ومع ذلك، لم تستسلم أنقرة لإملاءات الواقع، وأصرت على الحصول على موطئ قدم ومنافسة القوى العظمى التقليدية المهيمنة على القارة.
وفي 2008، عقدت قمة التعاون التركية الأفريقية في إسطنبول، في لقاءات سعت أنقرة لاستثمارها تحت يافطات زائفة، مستفيدة من الأزمات والصراعات السياسية والطائفية بمختلف أرجاء القارة، وعملت على ربط علاقات وثيقة مع لوبيات التهريب والاتجار بالبشر والقراصنة، قبل أن تمد جسورها نحو التنظيمات المتطرفة، لتكون شبكة واسعة مع مختلف العصابات، بالتوازي مع محاولة التودد لبعض الأنظمة وتجنيدها لخدمة أجندتها.
ومنذ ذلك الحين، ارتفع عدد سفارات أنقرة في إفريقيا من 12 إلى 42، كما قفز عدد مكاتب وكالة التعاون والتنسيق التركية (تيكا)، ذراع أردوغان المسموم، في أفريقيا، من 3 إلى 11، تنشط في 28 دولة بالقارة.
معاول خراب زرعتها تركيا في القارة السمراء، لتؤمن جسر تغلغلها في مفاصلها، والوصول إلى دوائر القرار فيها، ولم تغفل أيضا استهداف الأجيال الراهنة والناشئة، حيث ألقت بطعم المنح الجامعية، لتستقطب أكثر من 10 آلاف طالب تخرجوا جميعهم في جامعات أنقرة ومؤسساتها التعليمية، دون احتساب الطلبة الذين يزاولون حاليا تعليمهم في تركيا.
مشروع أردوغاني تدثر بكامل العباءات المخادعة، بهدف الوصول إلى كنوز القارة، رافعا شعار (رابح ـ رابح) الكاذب، لإيهام الأفارقة بأن الوجود التركي يرمي لتقاسم الأرباح والمزايا، والتغطية على سرقة خيرات القارة، وهذا ما يفسره ارتفاع حجم التبادل التجاري التركي الأفريقي من 5.4 مليار دولار في 2003، إلى 24 مليار دولار في 2019.
بعد القناع الاقتصادي والإنساني، كشرت أنقرة عن وجهها الحقيقي، حيث استغلت الفوضى السائدة في الصومال جراء الحرب الأهلية، وافتتحت، في 2017، قاعدة عسكرية بالبلد الأفريقي.
كما صنعت شبكة من العملاء والجواسيس مكنتها من تأسيس علاقات قوية مع صناع القرار في مقديشو، وتحويل البلاد إلى قاعدة خلفية لأطماعها.
ومن الصومال، تمددت أطماع أردوغان عبر سواحل أفريقيا لتصل إلى السودان، ليوقع مع نظام الرئيس المخلوع عمر البشير عقد إيجار لميناء سواكن، الجزيرة السودانية في البحر الأحمر، ضمن مخطط يسعى الرئيس التركي من خلاله إلى تطويق خصوم أنقرة بالمنطقة.
تحركات مريبة ترنو إلى إعادة تشكيل الخارطة الجيوسياسية بالقارة السمراء والمنطقة العربية المتصلة بها، فضحها أيضا التدخل التركي في الأزمة الليبية، عبر إرسال الأسلحة والمرتزقة لدعم ميليشيات العاصمة طرابلس، في خرق واضح للقرارات والمواثيق الدولية.
وبتوقيع أنقرة وميليشيات طرابلس مذكرة بحرية تمنح الأولى قطاعا غنيا بالغاز في شرق البحر المتوسط، تأكد أن منسوب العدوان التركي وصل إلى المنطقة المتوسطية، مع ما يترتب على ذلك من زعزعة للعلاقات الإقليمية، خصوصا في ظل تداخل الحدود البحرية وعدم تسويتها بشكل نهائي.
إعادة تشكيل المحاور
جولة أفريقية أجراها أردوغان، أواخر يناير/ كانون ثان الماضي، إلى كل من الجزائر والسنغال وغامبيا، ترمي في ظاهرها لتعزيز العلاقات، لكن باطنها يحمل دلالات أخرى متعلقة باستراتيجية التغلغل الاستراتيجي بالقارة السمراء، ومحاولات إعادة تشكيل المحاور الإقليمية وميزان القوى الدولية، بما يلبي الأطماع التركية.
ففي الجزائر، ورغم الصد المنيع الذي يبديه هذا البلد حيال أي نوع من الوجود التركي، إلا أن أنقرة نجحت في اختراقه بعباءة الاستثمارات، ممثلة في أكثر من 800 شركة تركية ناشطة في مختلف المجالات، فيما تجاوز حجم التبادل التجاري بين الجانبين، نهاية 2019، نحو 4 مليارات دولار.
وقبل الجزائر، تحركت بوصلة الأطماع التركية نحو السنغال، معتمدة ذات السياسة من أجل التغلغل بأكبر حصون الفرانكفونية (البلدان الأفريقية الناطقة بالفرنسية) بالقارة السمراء، ومنها إلى مالي وبوركينا فاسو، ونيجيريا والنيجر، ووصل حد حوض بحيرة تشاد، مرورا بأفريقيا الوسطى ورواندا وبوروندي وجنوب أفريقيا وغيرها من البلدان الأفريقية.