عندما سكن دونالد ترامب في البيت الأبيض، اختبر الشرق الأوسط “تخلي” الولايات المتحدة عن نفوذها جزئيا لصالح قوى إقليمية ودولية، فماذا كانت النتيجة؟ لم تصبح بلاد العرب أكثر أمانا، ولم تهدأ فيها النزاعات، ذلك لأن أي بقعة يغادرها الأميركيون تتسابق إليها الجيوش والمرتزقة والطامعون بخيراتها.
لا نبالغ بالقول إن الولايات المتحدة تمتلك القول الفصل في جميع قضايا المنطقة. كما لا يخفى على أحد أن قلب العالم القديم مازال وجهة جذابة للعديد من القوى الدولية والإقليمية كمناطق استثمار وتجارة وصناعة من جهة، وكجبهات لتصفية الحسابات وعقد المساومات والصفقات السياسية من جهة ثانية.
لا تحتاج إلى بذل جهد كبير في تتبع دور الولايات المتحدة بالمنطقة، بإيجابياته وسلبياته. فهي لم تكن يوما الملاك الذي ينشر السلام حيثما يحط، ولكن نكران وجود فائدة لحضورها في بعض الأزمات والأماكن، يأتي في سياق تنظير يتجاهل حقيقة واضحة مفادها أن العالم حتى اليوم يدار بلغات القوة والمصالح والنفوذ.
وإلى حين استبدال السلام بكل اللغات المستخدمة في العلاقات الدولية، تفرض الواقعية السياسية التعامل مع مصالح القوى العالمية والمفاضلة بين تحالفاتها على أساس المصلحة الوطنية أولا والعربية ثانيا والإقليمية ثالثا، فمن الطبيعي أن تختلف أولويات ومصالح دول المنطقة داخليا وخارجيا، ولكن ذلك لا يجب أن يلغي حقيقة وجود قواسم وأهداف مشتركة بينها في المصلحة القومية، إن جاز التعبير.
واقع الحال يقول إن تبدل الأولويات الأميركية في المنطقة خدم تركيا وإيران وروسيا والصين. لقد استفادت الدول الأربع كثيرا من التباينات الداخلية التي تعيشها الولايات المتحدة إزاء الشرق الأوسط منذ وصول باراك أوباما إلى السلطة عام 2009، ولكنها لم تستطع مجتمعة أن تلغي النفوذ الأميركي أو تهمشه.
خلال نحو عقدين من الزمن، تغيرت ملامح “الشرق الأوسط الكبير” الذي أطلقه الرئيس الأميركي جورج بوش الابن عام 2004 عدة مرات، بدءا من التسمية وانتهاء بالخارطة، ولكن بقيت للولايات المتحدة اليد الطولى فيه. ارتكبت واشنطن خلال هذه السنوات الكثير من الأخطاء وتبدلت سياستها عدة مرات تبعا للمتغيرات ولأولويات الإدارة التي تسكن البيت الأبيض، ولكنها لم تتنازل يوما عن نفوذها في المنطقة.
لا يهم كم يبلغ عدد أفراد القوات الأميركية اليوم في المنطقة إن كانت واشنطن تدير البحر والسماء ولقمة العيش في دولها. وماذا يفعل الصراخ والتهديد والخطب النارية وصواريخ الكاتيوشا، طالما أن كل دول العالم عاجزة عن تغيير واقع الحال على الأرض في أي أزمة دون التفاوض مع البيت الأبيض والاتفاق معه.
على ضوء هذه المعطيات يجب قراءة التصريحات الأميركية بشأن الانسحاب من العراق والشرق الأوسط. وإن كانت لا تحمل أي جدولة زمنية قريبة أو بعيدة، فهي تبعث برسائل تستحق تأملا وقراءة بين السطور، من أجل وضع خطط للتعامل مع متغيرات قد يحملها العقد الجديد من الألفية الثالثة في السياسة الخارجية الأميركية.
أول هذه الرسائل أن الولايات المتحدة باتت تعد العدة لحرب عالمية باردة وساخنة من أجل إعادة تثبيت موقعها كقطب عالمي أول، والمنطقة العربية ستكون ساحة من عدة ساحات لمعارك هذه الحرب. وبقدر ما تصطدم مصالح واشنطن مع خصومها فوق هذه المنطقة، بقدر ما سيقع الضرر على الدول والأنظمة والشعوب.
لن تخوض الولايات المتحدة الحرب بمفردها، وحلفاؤها في الغرب والشرق لن يدخروا جهدا في التواجد بكل مكان وزمان تستدعيه هذه الحرب. لذلك لا بد لدول المنطقة العربية من اختيار تحالفاتها للمرحلة المقبلة بدقة متناهية. فالخصومة مع الولايات المتحدة ستكون مكلفة، ولن يكون للحياد متسع كبير عندما تشتعل جبهات الحرب.
من رسائل الانسحاب الأميركي المبهم أيضا، يأتي الاستعداد لملء أي فراغ قد يحدث جراء إعادة تموضع وليس انسحاب، للقوات الأميركية في أي زمان أو مكان بالمنطقة. وفي هذا تحديدا يجب أن تتعظ الدول العربية مما حصل في سوريا والعراق وليبيا، فلا تترك الأبواب مشرعة أمام الأتراك والإيرانيين وغيرهم، ولا تخدع نفسها بنظرية النأي بالنفس عما يجري خارج حدودها وكأنه لا يمس أمنها واستقرارها.
ثمة رسالة مهمة أخرى تتعلق بالتقدير الصحيح لإمكانيات العمل العربي المشترك في مواجهة التحديات المقبلة. لا يمكن للعرب حلحلة مشاكلهم دون تعاون مع القوى العالمية. كما أن العديد من دول المنطقة تعاني أزمات تحد من إمكاناتها، وخلاص هذه الدول من أزماتها يحتاج آذانا صاغية وتفهما من الأشقاء، وإلا ستبحث عن دعم وحلول في الجوار الإقليمي الطامع بها، والمتربص بأخطائها وعثراتها ونقاط ضعفها.
إلى حد كبير، التقطت بعض الدول العربية رسائل “الانسحاب” الأميركي من الشرق الأوسط، وقرأت من خلالها كل ما شهدته المنطقة من تغيرات خلال السنوات الماضية. هذه الدول تبذل اليوم جهودا كبيرة في صياغة تحالفات وتفاهمات جديدة، عربية – عربية من جهة، وعربية – دولية من جهة أخرى، تخرج المنطقة من عنق الزجاجة، وتقف بها على أعتاب مرحلة جديدة تكون فيها أكثر فاعلية وتأثيرا دوليا.
لا يزال هناك كثير من العمل، وقد تفشل جميع هذه المحاولات العربية لتحصين المنطقة وترسيخ حضورها على الخارطة العالمية، ولكن المؤكد أن الدول التي باتت تقرأ السياسة الدولية بعين إستراتيجية وأخرى تكتيكية، لن تندم ولن تخسر كثيرا أينما اتجهت مسارات “الحرب العالمية المقبلة”، وكيفما تغيرت ملامح الشرق الأوسط.
*صحافي سوري