إن الضغوط التي تمارسها الإدارة الأميركية الجديدة برئاسة جو بايدن، والتي كانت مساهمة بشكل فاعل في صياغة الاتفاق في عهد أوباما، لا تقتصر أو تنحصر في الحصول من إيران على تنازل للعودة إلى تطبيق بنود والتزامات الاتفاق والتخلي عن الخطوات التي قامت بها لتقليص تعهداتها قبل موافقة واشنطن على رفع العقوبات التي فرضها ترمب في السنوات الثلاث الماضية، أو إجبارها على فتح مسارات جديدة من التفاوض حول برنامجها الصاروخي ودورها ونفوذها الإقليمي وضرورة توسيع دائرة الدول المشاركة في الاتفاق ليضم دولاً إقليمية عربية لتخفيف مصادر قلقها وهواجسها من الطموحات التوسعية لإيران في الإقليم.
بل إن الهدف الذي يظهر في تأكيدات المسؤولين الأميركيين بضرورة التوصل إلى اتفاق جديد قابل للاستمرار ويشمل جميع المسائل الثنائية والدولية والإقليمية، يحمل على الاعتقاد بأن ما تريده واشنطن، ولا تستبعده طهران، يدور حول ضرورة التوصل إلى حل للنزاع التاريخي بين البلدين، والانتقال إلى مرحلة من العلاقات المتقدمة التي تشمل إعادة تطبيع العلاقات بما فيها التبادل الدبلوماسي والسياسي، فضلاً عن إزالة كل العقبات والموانع التي تحول دون دخول الشركات والاستثمارات الأميركية إلى السوق الإيرانية واقتصادها المتعطش للمشاريع الاستراتيجية والإنمائية في مختلف القطاعات الاقتصادية في البنى التحتية والطاقة، حتى النووية.
وتظهر الحاجة الأميركية لذلك مع ظهور توجه جدي لدى طهران يقوده المرشد الأعلى لبناء “تحالف شرقي” بأبعاد اقتصادية وتجارية وعسكرية وأمنية واستراتيجية يضم إيران وروسيا والصين، لمواجهة الضغوط والعقوبات والحصار الأميركي الذي يتعرضون له، بخاصة وأن خامنئي يعتبر في رؤيته الاستراتيجية أن “آسيا” ستلعب في المرحلة المقبلة دوراً قيادياً على مستوى العالم مع تراجع الدور الأميركي وغياب الفعالية الأوروبية.
وبعد أن اكتوت بلادنا العربية ببرامج الفوضى الخلاقة والتفتيت وتمزيق النسيج المجتمعى والحروب الإثنية والطائفية والانتحار الذاتى ، تعلمنا من الدرس المؤلم ومن الضحايا والخسائر الجسيمة ، كيف أن السبيل الوحيد للنجاة هو الحفاظ على استقرار أوطاننا ومواجهة كافة الدعاوى المشبوهة التى تقصف عقولنا بالكذب والبهتان من وراء شعارات التغيير البراقة، لكننا مع ذلك لابد أن نعترف بقصورنا وتقصيرنا فى تحويل الدرس الذى تعلمناه إلى مناهج وبرامج لتحصين الشخصية المصرية وتقوية مناعتها وزيادة دفاعاتها أمام أشكال الحروب الحديثة، من الشائعات إلى الأخبار الكاذبة والتقارير المفبركة التى تستهدف إفقاد المواطن ثقته فى وطنه وقيادته وتحطيم أحلامه بالنهوض والتنمية وإحباطه وتثبيط همته
وبعد الحرب الباردة في نهاية التسعينات والوحدة المالية عبر اليورو والتوسيع الكبير عام 2004، لا يزال من يراهن على الاتحاد الأوروبي بالرغم من نكسات ما بعد 2016 والبريكست، أنه القوة المطلوبة لمواجهة عولمة تتميز اليوم باحتدام التنافس الصيني الأميركي. لكن استمرار غياب البعد السياسي الموحد وفقدان الاستقلالية الاستراتيجية والعسكرية، بالإضافة إلى عدم النجاح في إدارة الأزمات وآخرها أزمة جائحة الفايروس التاجي، أخذ يبدد الآمال حول أداء الاتحاد ومستقبله ووزنه في معادلة القوة الجديدة في العالم.
راهنت غالبية الدول الأوروبية على رحيل إدارة دونالد ترامب ووصول إدارة بايدن. من الناحية النظرية تكلم الطاقم الجديد من واشنطن على تعزيز التحالفات لكن ذلك لصالح وجهة النظر الأميركية. ولوحظ عدم تغير موقف واشنطن بين إدارة وأخرى إزاء خط السيل الشمالي للغاز الروسي نحو ألمانيا، ولم يهتم الجانب الأميركي كثيرا باقتراحات الأوروبيين أو مخاوفهم حيال مستقبل الاتفاق النووي مع إيران ومن الواضح تفضيل المعنيين وراء الأطلسي بالمعالجة الثنائية المباشرة حسب التوقيت الأميركي.
والأدهى أنه مع مجابهة بايدن – بوتين الأخيرة وجلسة ألاسكا الحامية بين الأميركيين والصينيين، بدا وكأن القوى الأوروبية موجودة خارج المعادلة التي هي قيد التبلور لإعادة تشكيل النظام الدولي.
تنفق أوروبا مدتمعة (280 مليار دولار) على الدفاع، أي حوالي نصف ما تنفقه الولايات المتحدة الاميركية (450 مليار دولار) رغم ان الناتج القومي الإجمالي متساوٍ بين الاثنين. وهي المستفيدة، اقتصادياً على الأقل، من الدور السياسي والعسكري الذي لعبته أميركا في كل من الشرق الاوسط (الذي تعتمد على نفطه أوروبا أكثر من أميركا)، والشرق الأقصى (الذي يتزايد حجم التجارة الأوروبية معه باطراد). وهكذا كانت اوروبا بمثابة راكب بالمجان بالنسبة للأميركي العادي، كما يقول زبيغنيو بريجنسكي
. وبعد استعراض نتائج الحرب العالمية الثانية وفقدان أوروبا لمستعمراتها، تحت الضغوط الأميركية أحياناً. يعتبر روبرت كيغن ان اوروبا، التي بقيت خلال الحرب الباردة في حالة من التبعية الاستراتيجية للولايات المتحدة، لم تستطع التخلّص من سيكولوجية التعية هذه بعد الحرب المذكورة رغم الجهود الفرنسية
, ويشرح بأن التوتّورات التي تميّز العلاقات العابرة للأطلسي لم تبدأ مع تنصيب جوج دبليو بوش رئيساً في بداية 2001 ولا بعد 11 سبتمبر/أيلول، بل كانت الانقسامات والاتهامات المتبادلة واضحة خلال سنوات كلينتون وخلال إدارة بوش الأول
. وقد خيضت حرب كوسوفو وفقاً لـ «العقيدة الاميركية» الى حدّ كبير وبمعدات اميركية . ومع ان اوروبا تتمتع بقوة اقتصادية هائلة. وقد تمكنت من تحقيق نجاحات عظيمة على طريق تحقيق الوحدة السياسية، فان ضعفها على الصعيد العسكري كان قد تمخض عن ضعف دبلوماسي وأدّى الى اختزال حاد لنفوذها الساسي مقارنة بنفوذ الولايات المتحدة. حتى في شؤونها الداخلية بالذات
لكن الأوروبيي،، من جهتهم، يفخرون بأنهم حققوا معجزة حقيقية إذ انتقلوا من قرون من المجابهات والحروب النازفة الى تعاون اقتصادي قادهم الى التكامل. ,ابتدعدوا نموذجاً يمكن تقديمه الى العالم، هو نموذج تجاوز القوة والتسامي عليها، وإخضاع العلاقات بين الدول لسيادة القانون، كما يقول رئيس المفّوضية الأوروبية السابق رومانو برودي، الذي يضيف ان تجربة اوروبا على صعيد الإدارة التعدّدية الناجحة، ما لبثت ان تمخضت عن نوع من الطموح الى هداية العالم: «إن لأوروبا دوراً تضطلع به في إدارة العالم يقوم على تكرار التجربة الأوروبية على المستوى العالمي. فقد حلّت سيادة القانون في هذه القارة محل التفاعل الفظ للقوة. ونحن حين نجعل التكامل ناجحاً إنما نبيّن للعالم ان اجتراح نهج للسلام ممكن»
هذه الصيغة يعتقد الأوروبيون انه من الممكن تطبيقها على الفلسطينيين والاسرائيليين. ويقول المفوض الأوروبي كريستن باتن في هذا الصدد: «يبين التكامل الأوروبي ان التوافق والتصالح ممكنان بعد أجيال من تحمّل الحرب والمعاناة»
. من هنا ما يقوله كيغن (في مقال له في لوموند تاريخ 28-29 يوليو/تموز(2002)، ان اوروبا و أميركا متباعدتان في النظرة الى العالم كما لو ان الواحدة تعيش في كوكب المريخ والأخرى في زحل، مضيفاً لأن الأميركيين اليوم هم الأقوى، وهم يتصرفون كما فعلت القوى الكبرى على الدوام، واذا كان الأوروبيين قد باتوا من دعاة الحكم العالمي السلمي، وكثير منهم ينظر الى الولايات المتحدة كخارجة على القانون، فلأنهم، كما تقتضي الواقعية، يتبعون الاستراتيجية الأكثر ملاءمة لضعفهم، أما الباقي فمجرد زخرفة إيديولوجية.
يرد الباحث الفرنسي مونتبريال على كيغن بالقول إنه عندما قررت اوروبا التخلي عن سياسات القوة فليس لأنها فضّلت الضمان الصحي والاجتماعي على العسكري، ولكن أنها استخلصت العبر من تاريخها المليء بالحروب المدمّرة، فابتكرت نموذج تعايش وتكامل واندماج سلمي تفاخر به وتعتبره قابلاً للتصدير
. وفي جميع الأحوال، فان انشغال اوروبا بجدول اعمال التكامل الضخم والمعقد وتوسيع الاتحاد وتعميقه ومراجعة الخطط والبرامج الاقتصادية والزراعية المشتركة، وبحث مسألة السادة الوطنية وفوق – الوطنية وتذليل الصعوبات المتوقعة وغير المنتظرة في مسارها واقرار دستور مشترك وغيرها من التحديات، جعلتها في غنى عن خوض النزاعات الخارجية، لا سيما تلك التي لا طائل لها بها، ناهيك عن حاجتها للحفاظ على علاقات جيدة مع الولايات المتحدة لأسباب كثيرة سياسية وعسكرية واستراتيجية، عدا عن الارتباط الاقتصادي المتبادل الذي يمثله مبلغ ألفي مليار دولار من التبادلات والاستثمارات السنوية بين ضفتي الأطلسي.
ويبدو الأوروبيون عموماً أكثر اتحادا في النظرة الى الصراع العربي – الاسرائيلي منهم حيال أزمات ومشاكل اخرى في العالم. ومؤخراً باتوا جزءاً نت الرباعية المشرفة علة «خريطة الطريق». وفي تموز 2004، صوّت أعضاء الاتحاد الخمس والعشرون، في الجمعية العامة للمم المتحدة على قرار يندّد بجدار الفصل الذي تبنيه إسرائيل في الضفة الغربية، مبددين بذلك المخاوف من ان يكون الاتفاق في ما بينهم على أمر ما في السياسة الخارجية قد بات مستحيلاً بعد ان باتوا خمساً وعشرين دولة. وهذا ما دفع احد الباحثين في السياسة الاوروبية الى القول ان «الاتحاد الاوروبي موجود بالفعل في ما يتعلق بالمشكلة الفلسطينية»
. لكن الموقف لا يتحوّل فعلاً مؤثراً في غياب القرار والقدرة على تنفيذه اذا ما اتخذ. الى اليوم لم يحسم الاوروبيون أمرهم حيال هوية الاتحاد الذي يشرعون في بنائه. هل هو مجرد فضاء ثقافي اقتصادي تجاري ان انه قوة دولية عظمى بصدد التبلور؟ لم يخوضوا بعد نقاشاً جدياً حول هذا الموضوع، ويبدو انهم يعتقدون اننا نعيش في عالم تكفي فيه القوة الناعمة (soft). فرنسا وحدها تقريباً تعيش في الامل ببناء «أوروبا – القوة» التي تصبح في الغد «قطبا» في «عالم متعدّد – القطبية»، توازن فيه القوة الاميركية. وقد اكتشف الفرنسيون من خلال الحرب الاميركية على العراق، ان رؤيتهم لأوروبا وللتعددية – القطبية تمثل اقلية ضئيلة في اوروبا الـ 15، وبالأحرى اوروبا الـ 25 ، من دون الكلام عن العداء الاميركي الواضح لفكرة التعددية هذه