قبل أن يستتب الأمن في دارفور بالوصول إلى سلام شامل في الإقليم الذي يعاني الحرب والفقر منذ 2003، على إثر تحول شرارة حملة الحكومة السابقة المضادة للتمرد هناك إلى اشتعال الإقليم بعمليات القتل والحرق والتشريد، تقدمت الحكومة الانتقالية بطلب شطب ثلاثة سودانيين من قائمة العقوبات الصادرة عن مجلس الأمن بموجب القرار 1591 (2005) في شأن النزاع في دارفور. لم يكن رفض لجنة العقوبات المفروضة على السودان في الأمم المتحدة، بعيداً من المنطق، باعتبار أن القضية لا تتعلق بالعقوبات على السودان ولكن على أفراد ارتكبوا جرائم محددة، بغية تحقيق الغرض الأساسي في شأن معاقبتهم، وهو دعم تحقيق سلام دائم في دارفور.
تعقيدات الأزمة
تكمن تعقيدات أزمة دارفور في أنه خلال المفاوضات التي جرت في السنوات الأولى للحرب، من 2003 حتى 2011، كانت أولويات الوسطاء والمجتمع الدولي خصوصاً الأمم المتحدة، التركيز على قضايا إنسانية مثل دعم النازحين في ظل وضع تشتعل فيه الحرب في أكثر من زاوية بين الحكومة السابقة والحركات المسلحة من جهة، وبين هذه الحركات في ما بينها من جهة أخرى. وهذه الانقسامات من أجل المكسب على الأرض لم تترك مجالاً لتوحد الحركات المسلحة، وإنما استغلته الحكومة السابقة لخلق أزمة ثقة بينها واستقطاب بعضها لضرب البعض الآخر. بيد أن القضية اشتملت على ما هو أبعد من حالات التطرف في الصراع، مما أدى إلى الدعوة إلى إجراء تحقيقات مع كبار المسؤولين في الحكومة السودانية آنذاك وعلى رأسهم الرئيس السابق عمر البشير جراء الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية وجرائم الحرب وفق التقارير الأولية الصادرة بهذا الخصوص، وأبرزها تقرير “هيومن رايتس ووتش” الذي صدر في ديسمبر (كانون الأول) 2005.
وبعد ذلك بشهر واحد أي في 31 مارس (آذار) 2005، أحال مجلس الأمن الوضع في دارفور إلى ادعاء المحكمة الجنائية الدولية. وفي أبريل (نيسان) 2007، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية أوامر اعتقال بحق وزير الدولة للشؤون الإنسانية آنذاك أحمد هارون، وزعيم الجنجويد علي كوشيب جراء ضلوعهما بصفة أساسية في جرائم وقعت غرب دارفور. وتوصلت لجنة تقصي الحقائق الدولية التابعة للأمم المتحدة عن دارفور إلى قائمة تشمل 51 مشتبهاً فيهم.
اتهامات قوية
وعندما خرج إلى العلن طلب لويس مورينو أوكامبو، مدعي المحكمة الجنائية الدولية في 4 مارس (آذار) 2009 طالباً إصدار مذكرة توقيف بحق البشير بتهمة ارتكاب جريمة “إبادة عرقية” في دارفور، استوقف هذا التعبير جهات عدة، فقد انتقدته لجنة تقصي الحقائق الدولية التابعة للأمم المتحدة عن دارفور بأنَّ الآلية التي استخدمها أوكامبو في الإعلان باستخدام “الإبادة العرقية” بدلاً عن “جرائم حرب ضد الإنسانية”، أحاطت مذكرة التوقيف بملابسات ضرورة إثبات جرائم الإبادة، إذ ألزمها ذلك الاتهام بضرورة إثبات أن البشير وبعض الميليشيات العربية التابعة له ارتكبت جرائم محددة تسببت في إبادة جماعة ما كلياً أو جزئياً، وكانت قواته تحارب جماعة عرقية واحدة، إذ إن الجماعات تتوحد في كونها أفريقية إثنياً ولكنها تعود بجذورها إلى قبائل مختلفة، مما أضعف الحجة لاستصدار الأمر، إضافة إلى أنه ليس كإقليم جنوب السودان الذي صُنفت الحرب معه على أساس عرقي وديني من عرب شماليين مسلمين ضد قبائل أفريقية مسيحية حتى أدت إلى انفصاله عام 2011، فإن الاختلاف في وضع دافور نابع من أنه لم تجتمع هذه العوامل لخدمة الحجة القائلة بالإبادة العرقية، وأنه كان ينبغي التركيز على الاتهامات بجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، التي شملت القتل والاغتصاب وغيرها. وهي في حد ذاتها اتهامات قوية لجرائم وحشية يمكن إثباتها وكان في الإمكان أن تقصر طريق القبض على المطلوبين.
خرق الاتفاق
في الجانب الآخر رعت الأطراف الدولية اتفاق وقف إطلاق النار الإنساني الخاص بالنزاع في دارفور وصولاً إلى توقيعه في 8 أبريل (نيسان) 2004، ثم بروتوكولات عدة خاصة بمساعدات إنسانية واتفاق حول ترتيبات إنشاء لجنة لوقف إطلاق النار ونشر مراقبين دوليين، منها البروتوكول المتعلق بالوضع الإنساني في دارفور وبروتوكول تعزيز الوضع الأمني وإعلان المبادئ لتسوية النزاع في دارفور، ولكن أدى خرق هذا الاتفاق والتعنت من الجانبين الحكومي والحركات المسلحة إلى أن تشمل قائمة لجنة العقوبات المفروضة على السودان في الأمم المتحدة، فرض عقوبات دولية على أربعة أفراد منهم ثلاثة قادة لحركات مسلحة والرابع لواء في الجيش السوداني. وشطبت اللجنة آدم يعقوب شريف قائد جيش تحرير السودان الذي توفي في يونيو (حزيران) 2012، بينما اعترضت اللجنة على شطب الثلاثة الآخرين، وهم موسى هلال شيخ قبيلة المحاميد في دارفور ورئيس مجلس الصحوة الثوري في السودان، وقائد ميليشيا الجنجويد السابق، ومتهم بالتورط في جرائم حرب ضد الجماعات المسلحة في دارفور، أُطلق سراحه في 11 مارس (آذار) الماضي بعد اعتقال دام أكثر من ثلاثة أعوام. وتضم القائمة جعفر محمد الحسن، وهو لواء في الجيش السوداني كان قائداً للمنطقة العسكرية الغربية، وجبريل عبدالكريم إبراهيم مايو، أحد القادة العسكريين للحركة الوطنية للإصلاح والتنمية التي تضم حركة العدل والمساواة وبعض فصائل جيش تحرير السودان. ويُتوقع أن تنظر اللجنة في طلب الإعفاء عن اثنين من هؤلاء الثلاثة، هما موسى هلال الذي أفرج عنه بعد إسقاط تهم كان يحاكم بموجبها، منها مناهضة نظام البشير، بعدما شُطبت الدعوى الموجهة ضده بواسطة المحكمة العسكرية ووضع القرار في خانة العدالة الانتقالية، وعلى اعتبار من اللجنة بأن هلال كان قائداً لميليشيا مسلحة استخدمتها الحكومة في حربها ضد القبائل الأخرى. أما الثاني فهو مايو الذي أفرزته الجرائم التي ارتكبتها القوات الحكومية ضد قبائل أهله في دارفور. وربما يُستثنى الحسن اللواء في الجيش ضمن القوات الحكومية التي كانت ترتكب الجرائم على نطاق واسع بحق مواطني دارفور.
صراع مركب
على الرغم من توقيع معظم حركات دارفور المسلحة اتفاقيات سلام مع الحكومة الانتقالية، إذ لم يتبق من الحركات الرئيسة غير حركة تحرير السودان بقيادة عبدالواحد محمد نور، فإن الإقليم لا يزال يعاني ظروف التدهور والمعاناة، فبعد تنحية الصراع السياسي والعسكري جانباً، تظل محركات الصراع القبلي شاخصة.
تحاول لجنة العقوبات المفروضة على السودان في الأمم المتحدة وضع قرارها ضمن مبررات إنسانية لقضية سياسية، قد يعلي هذا التفسير من اهتمام القرار بوضع إقليم دارفور الذي تلعب فيه عوامل إثنية وسياسية وبيئية تهيئة الإقليم لاندلاع الصراعات والعنف، مما يضعها تحت الرقابة وتوقع حدوث صراع مبني على هذه العوامل، وهذا ما جعل الحكومة الانتقالية تبادر بطلبها إلى الأمم المتحدة بعد انتهاء تفويض البعثة المختلطة للاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة في دارفور (يوناميد)، التي نُشرت منذ 2007 تحت البند السابع الذي يجيز استخدام القوة، بهدف حماية المدنيين في إقليم دارفور، استبدالها ببعثة الأمم المتحدة المتكاملة (يونيتامس). وقد بدأت “يونيتامس” عملها في يناير (كانون الثاني) الماضي بغرض دعم المرحلة الانتقالية في السودان وإكمال المهمات الإدارية لـ “يوناميد” بدارفور.
في البداية، واجه قرار سحب “يوناميد” اعتراضاً من الحركات المسلحة كونها لم تهتم بطبيعة الصراع المركب الذي أدى إلى ضعف الدولة من جهة وانشقاق الحركات من جهة أخرى، بينما في الواقع هي ما أتاح الفرصة لهذه الحركات بحرية الاعتراض على اتفاقيات عدة مع الحكومة السابقة، ووفرت لها حرية الاختلاف في ما بينها، حتى إن بعضها كان يرى بقية الحركات لا تمثّل أهل دارفور، فيعرقل وفقاً لذلك اتفاقات تشتمل على تهيئة الأوضاع لوقف إطلاق النار وعودة النازحين وقضية التعويضات.
تسوية شاملة
وانطلاقاً من وضع دارفور تحت بعثتين دوليتين، فإن مهمات البعثة السابقة “يوناميد” كانت هي الحفاظ على السلام، ولكن عندما كان يجيء الحديث عن الصلاحيات لتوفير الحماية الكاملة للمدنيين، لم تبرز النتائج المرجوة، واتضح ذلك في أحداث لم ينفع التحايل حولها أو تعتيمها مثل حرق القرى الذي حدث مرات عدة أثناء ولايتها التي استمرت لأكثر من عشر سنوات. وبررت البعثة قصور اهتمامها للإحاطة بهذه الحوادث بنقص الدعم والتمويل، بينما دافع المجتمع الدولي بأنه وضع شرط التزام البعثة بتعهداتها والتعاون كي يتدفق التمويل، وهو ما لم يحدث بالشكل المطلوب. أما الآن، وفي وضع تعمه أجواء السلام بتوقيع الاتفاقيات مع الحركات المسلحة، تركز الحكومة الانتقالية على المشهد الأمني والخدماتي والإنمائي، من غير أن تحصل على رضا الحركات على وجود “يونيتامس”، مما يستلزم ضرورة التوصل إلى تسوية شاملة بقيام عملية سياسية تتوفر لها البيئة المناسبة للتحول الديمقراطي، وهذا هو القصد من دعم “يونيتامس” للحكومة الانتقالية، إذ ستواجه هذه البعثة تسوية قضايا ارتكبها النظام السابق وعرقلة تسويتها الحركات المسلحة عندما جاءت بها الاتفاقيات السابقة، وهي “حقوق الإنسان والحريات الأساسية، تقاسم السلطة والوضع الإداري في دارفور، تقاسم الثروة والموارد القومية، التعويضات وعودة النازحين واللاجئين، العدالة والمصالحة، وقف إطلاق النار الدائم والترتيبات الأمنية النهائية، آليات الحوار والتشاور الداخلي وسبل التنفيذ”.
وبالطبع، فليس لهذه الحركات أسباب قوية للرفض إلا باحتمال بعدها عن العملية السلمية، إذ سيشكل توقيعها على اتفاق السلام التزامها بالمسؤولية تجاه عملية السلام في دارفور بعد انتهاء دواعي الحرب الخاصة بالنظام السابق.