يقف الصومال على مشارف الانتخابات البرلمانية والرئاسية، وسط انقسامات داخليَّة حادَّة بين الحكومة والمعارضة، مُمثَّلة بالولايات الفيدرالية واتحاد المترشحين. وكان من المُقرر البدء بإجراء انتخابات البرلمان -بمجلسيه النواب والشيوخ- في نوفمبر 2020م؛ لكنها تأخَّرت عدة أشهر. الأمر الذي انعكس على تأجيل الانتخابات الرئاسية عن موعدها الدستوريّ. وهو ما فجَّر أزمة سياسية في الداخل الصومالي؛ لا سيّما في ظل غياب آليَّة قانونيَّة تُمكِّن الحكومة الحالية من الاستمرار في الحكم بعد انتهاء ولايتها في 8 فبراير 2021م، وهو ما قد يُنذر بتصاعد الأزمة كما حدث مِن قبل في إثيوبيا؛ عندما اعترض قادة إقليم التيجراي على تأجيل الانتخابات، وقاموا بإجراء انتخابات للإقليم بمعزل عن الحكومة المركزية، وكانت تلك الشرارة الأولى للحرب مع الإقليم.
فما جذور الأزمة في الصومال؟ وكيف تطوَّرت؟ وما محاورها وأبعادها وخيارات الخروج منها؟
تلك هي التساؤلات التي سنسعى للإجابة عنها خلال هذا المقال.
أولاً: جذور الأزمة الصومالية:
الصومال لديها ثلاث أقاليم تتمتع بالحكم الذاتي؛ اثنان في الشمال، بونتلاند وأرض الصومال، وواحد في الجنوب، جوبالاند. تتمتع جميع المناطق الثلاث بعلاقة معقدة مع الحكومة المركزية[1]، منذ الإطاحة بالدكتاتور الصومالي السابق سياد بري في يناير 1991م، كان القادة الصوماليون يتقاتلون مع مختلف العشائر في البلاد لأكثر من ثلاثة عقود حتى الآن. القضايا الرئيسية بين الحكومات والعشائر هي توزيع الموارد والسلطة العسكرية والسياسية.
وعلى مدى ثلاثة عقود منذ انهيار تلك الديكتاتورية العسكرية، كافحت الصومال لإعادة تأسيس حكومة مركزية فعَّالة. وبين عامي 2012 و2016م، بدأت ملامح الجمهورية الفيدرالية الصومالية في التبلور، وتمَّ إنشاء آليات للحوار السياسي رفيع المستوى.
لكن لم يلبث فرماجو أن شنَّ هجومًا حازمًا على نص وروح الدستور الصومالي المؤقت، ومبادئ النظام الفيدرالي الناشئ، ومبدأ السياسة التشاورية الشاملة المُكرَّسة في القانون الأساسي للبلاد. وأعاد فرماجو الصومال مرة أخرى إلى حافة الانهيار المؤسسي والصراع المسلح؛ حيث ركَّز بقوة على احتكار السلطة والموارد.
وبدلاً من إشراك قادة الدول الفيدرالية الأعضاء كشركاء، فقد اعتبرهم منافسين وقام بحلّ منتدى القادة الوطنيين –الذي كان قد أسَّسه سلفه حسن شيخ محمود في محاولة لتوحيد الدولة-.
وتجاهل فرماجو بشكل مُتعمَّد مجلس الشيوخ في البرلمان، الذي يُمثِّل مصالح الولايات، وعمد إلى إنشاء لجان وطنية رئيسية وتوقيع تشريعات مهمة دون موافقة مجلس الشيوخ أو القبول السياسي للولايات[2].
ثانيًا: تطوُّرات الأزمة:
أدَّت التوترات بشأن الانتخابات إلى تفاقم الانقسامات بين الفصائل الوطنية في الصومال. في حملته، يحظى فرماجو بدعم قادة من المناطق الفيدرالية في غالمودوغ وهيرشابيل وجنوب غرب. ويواجه معارضة من مجلس المرشحين الرئاسيين، وهو تحالف يضم رئيسين سابقين ورئيس وزراء سابق، والقيادات الإقليمية في بونتلاند وجوبالاند[3].
هذا الانقسام أدَّى بالتبعية إلى تصاعد موجة العنف والعمليات الإرهابية في مقديشيو، والتي بدا جليًّا خلالها أن حركة الشباب تستغل الاضطرابات السياسية ومأزق الانتخابات. وإذا لم تتم معالجة هذا الأمر بشكل عاجل، فسيواصل المسلحون شنّ هجمات مميتة.
ويأتي هذا بالتزامن مع إعلان الجيش الأمريكي؛ أن الرئيس الأمريكي جو بايدن علق ضربات الطائرات بدون طيار في الصومال، وأوقف الهجمات العسكرية في البلدان التي لا تشارك فيها الولايات المتحدة عسكريًّا.
وبالتالي، فإن أيّ عملية من هذا القبيل خارج أفغانستان أو العراق أو سوريا يجب أن تحصل الآن على موافقة من البيت الأبيض. وهذا بعدما كان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب قد ترك القرار المتعلق بهجمات الطائرات بدون طيار للقادة على الأرض[4].
ثالثًا: محاور وأبعاد الأزمة:
على الرغم من توصُّل الشركاء السياسيين إلى اتفاق سياسي في سبتمبر2020م بخصوص النظام الانتخابي، إلا أنهم تأخروا عن تنفيذ مخرجاته، وهو الأمر الذي يؤثّر في جدول انتخاب رئيس الجمهورية ويؤخره؛ ويعود ذلك إلى الخلاف القائم على عدة بنود في الاتفاق:
أولها: الجدول الانتخابي؛ حيث تم تأجيل موعد الانتخابات التشريعية عن موعدها الدستوري نوفمبر 2020م.
وثانيها: لجنة الانتخابات؛ حيث تُبدي المعارضة عدم ثقتها باللجنة التي عيَّنتها الحكومة، وتراها موالية لأجهزة الدولة الأمنية؛ فأصدر اتحاد المرشحين بيانًا يدعو فيه إلى حلّ اللجنة، ويُهدّد بإجراء انتخابات موازية للانتخابات الوطنية.
وثالثها: مقاعد صوماليلاند؛ حيث تقترح الحكومة في هذا السياق إجراء انتخابات في مقديشو، تجمع السياسيين المنحدرين من صوماليلاند المقيمين في العاصمة، لكن تختلف المعارضة والحكومة حول كيفية اختيار مندوبي صوماليلاند.
ورابعها: إقليم جدو؛ والذي يملك 16 مقعدًا، وتتركز نقطة الخلاف في أن الحكومة تريد إبقاء تلك المقاعد في مدينة غربهاري التي تسيطر عليها، في حين يرفض قادة الإقليم ذلك ما لم تُنقل سلطة المدينة إليهم[5].
وللمشكلة السياسية الراهنة بين القيادات الصومالية أبعاد متعددة:
أولها: البُعد الدستوري؛ لأن الدستور لا يُفصِّل الصلاحيات -وخاصةً الصلاحيات بين المجالس التشريعية والتنفيذية، وغموض شرح بنود تتعلق بصلاحيات الولايات الفيدرالية-.
وثانيها: البُعد السياسي؛ حيث غياب القيادات الصومالية التي تتمتع بالكفاءة السياسية في احتواء الأزمات.
وثالثها: البُعد الأمني، الذي يُعقِّد ملف تأمين مقار ومناطق تنظيم الانتخابات في البلاد.
ورابعها: البُعد الاجتماعيّ، الناجم عن الصراع العشائري بين مكونات المجتمع.
وهذه جميعها ملفات بإمكانها أن تُفْشِل عملية تنظيم الانتخابات، وذلك في ظل عدم توفُّر حكومة تتصرف بواقعية في مواجهة التحديات بحكمة، ما أفرز الوضع السياسي المُعقَّد حاليًا[6].
كل هذا في الوقت الذي تُواجه فيه الحكومة الفيدرالية للصومال ضغطًا كينيًّا في الداخل الصومالي، حيث تحالفت كينيا مع قوى المعارضة الصومالية التي بدأت بشنّ حملة سياسية وإعلامية على الحكومة الفيدرالية، وخاصةً بشأن النزاع الحدوديّ بين الدولتين، وتوظِّف سياسيين صوماليين لمواجهة حكومة بلادهم.
رابعًا: خيارات الخروج من الأزمة:
هناك عدة خيارات للخروج من الأزمة:
أولها: أن تأتي مبادرة من قادة ولايتي بونتلاند وجوبالاند، ويقدّموا تنازلات حقيقية تمهّد الطريق لتنظيم الانتخابات.
وثانيها: يتمثَّل في عقد اجتماع آخر بين الحكومة الفيدرالية وقادة الولايات، مع إظهار مزيد من الجدية وتجنّب المزايدات السياسية والتركيز على المصلحة العامّة وتخفيف الاحتقان والتحلّي بالمرونة. وفي حال لم تتحقق هذه الخيارات، فإن البرلمان الصومالي قد يتَّجه إلى تمديد فترة مؤسسات البرلمان والرئاسة عامًا أو عامين، بينما قد يأتي الضغط الخارجي ضمن هذه الخيارات.
إلا أن البعض يستبعد خيار التمديد لسببين:
الأول: إن البرلمان انتهى تفويضه العام الماضي، ولذلك لا يحقّ له اتخاذ قرارات مصيرية.
والثاني: إن قرار التمديد مرفوض مِن قِبَل المجتمع الدوليّ والمعارضة السياسية. وبالنظر إلى أهمية عامل الوقت؛ فإذا لم يحلّ الزعماء الصوماليون خلافاتهم خلال الأسابيع المقبلة، فإن تدخُّل المجتمع الدولي قد يُشكِّل عاملاً حاسمًا في الأمر. والتدخل قد يأخذ طابعًا مباشرًا في المرة الأولى على أساس أن القرار السياسي في الصومال أمرٌ يملكه الصوماليون، وذلك من خلال عقد اجتماع للزعماء الصوماليين يحضره أعضاء من المجتمع الدولي بصفة مراقبين، وفي حال لم تنجح هذه المحاولة؛ فإن فرض وإملاء إرادة المجتمع الدولي على القادة الصوماليين أمرٌ لا مفرَّ منه[7].
الخُلاصة:
يتطلب من قيادة الدولة الصومالية تنفيذ ثلاث مهام أساسية لإكمال الانتقال السياسي، وهي: مراجعة الدستور المؤقت، وبناء الهيكل الفيدرالي، وتطوير نظام انتخابي مناسب. ومن ثمَّ يكمن السبب الأساسي في استمرار عدم الاستقرار وانعدام الأمن في الصومال؛ في الفشل في تحقيق تلك المهام الثلاث. ومع انتهاء ولاية الرئيس فرماجو الدستورية، يبدو المناخ السياسي الصومالي اليوم مشحونًا، وهو ما يوجب على الشركاء السياسيين ضرورة التوافق السياسي.
وفي حال تحقق ذلك؛ واتفقت الأطراف السياسية على تمديدٍ قصير الأجل، فعلى الشركاء الدوليين المساعدة في تحقيق أقصى استفادة منه. فإلى جانب تقديم الدعم الفني والمادي للعملية الانتخابية، يتعين الضغط على السلطات الفيدرالية وسلطات الولايات لوضع آليات واضحة لتسوية الخلافات المحتملة.
أما إذا استمرت الأزمة، ولم تنجح الحكومة والمعارضة في التوصُّل إلى اتفاقٍ سياسيّ، فسوف تتعرض البلاد لفراغ دستوري، ومِن ثمَّ لن يكون مُستعبدًا أن تنفجر الأوضاع في الداخل؛ الأمر الذي قد يؤدِّي إلى انهيارٍ كبيرٍ في كافة المجالات السياسيَّة والأمنية والاقتصادية، وغيرها. وفي ظل التوترات الأمنية القائمة بالفعل في الداخل الصومالي، والتي تتزامن مع تصاعد الخلاف الصومالي الكيني والذي ينعكس بدوره كذلك على الداخل الصومالي؛ فاحتمال تصاعُد الخلافات في الانتخابات إلى أعمال عنف هو احتمال قائم، وهذا يُنْذِر بالعودة إلى الحرب العشائرية. وهو الأمر الذي يُحتِّم على الحكومة التعامل معه بحذرٍ؛ فبسبب الحرب الأهلية الطويلة ما زالت فئات كثيرة من المجتمع والعشائر تمتلك أسلحتها الخاصة، وتُهدِّد باستخدامها في أيّ صراع محتمَل.
*باحثة في الشأن الأفريقي