الصومال اليوم

الجبهة الثورية في الشمال… معاً من أجل السودان

كان واضحاً منذ سقوط نظام البشير في 11 أبريل (نيسان) 2019، أن آثار سقوطه كنظام عقائدي ظل يبشر بما سمي “المشروع الحضاري” (الذي كان في حقيقته الوجه القبيح للقَدامة) ستبقى، لأن السياسة كالطبيعة لا تقبل الفراغ. وما حدث عقب سقوط نظام الإخوان المسلمين، في شرق السودان، كان الدلالة الأكبر على تلك المقولة، فقد رأينا بوضوح أن تسييس نظام الإدارة الأهلية بعد 30 عاماً من اعتماده بديلاً للأحزاب، قد أفرخ بعد العام 2019 في الشرق أجساماً سياسوية مارست السياسة بعقلية القبيلة لتواجه الواقع الجديد الذي أعقب سقوط النظام. 

ولقد كان أخطر تعبير عن ذلك الواقع بعد التغيير الكبير في شرق السودان، هو الجسم السياسوي الذي أسمى نفسه “المجلس الأعلى لنظارات البجا”، لأن ممارساته السياسوية التي قامت على الإقصاء والنظرة القبائلية الضيقة لقضايا الحقوق والمواطنة، قد أثرت للأسف في البيئة السياسوية الهشة برمتها في شرق السودان. فرأينا أجساماً أخرى موازية لهذا الجسم ومقلدة له في العمل السياسي، مثل “الآلية التنسيقية لعمد قبائل البني عامر” (الذي انشق أخيراً عن نظارة بني عامر ودعا إلى تأسيس نظارة جديدة تحت اسم نظارة بني عامر المتحدة) إلى جانب قيام جسم جديد لشباب قبيلة الهوسا في مدينة كسلا انشق عن الإدارة الأهلية كذلك. كل تلك التعبيرات التي تعكسها هذه الأجسام هي في تقديرنا امتداد لا واع للنظام الذي صممه حزب المؤتمر الوطني المحلول من أجل تخريب السياسة والقبيلة عبر تسييس الإدارة الأهلية. 

في ظل هذه الأجواء المحتقنة، التي تهب في وجه الثورة من  شرق السودان، تطل بوادر أمل لقيم الثورة من ولاية نهر النيل عبر حدثين مهمين: 

الحدث الأول، زيارة وفد من الجبهة الثورية بقيادة رئيسها الهادي إدريس عضو مجلس السيادة الانتقالي إلى ولايتي نهر النيل والولاية الشمالية، للتبشير بالسلام وشرح حقيقة اتفاق جوبا الذي تم توقيعه بين الحكومة والجبهة الثورية في أكتوبر (تشرين الأول) 2020 وما يتضمنه هذا الاتفاق من افتتاح فصل جديد للحكم الديمقراطي ودولة المواطنة في السودان. 

أما الحدث الثاني، فتمثل في إصدار والية نهر النيل آمنة المكي مرسوماً يجرم العنصرية في الولاية التي ظهرت فيها بوادر نعرات عنصرية وقبائلية من مخلفات النظام البائد، لا سيما في اعتراض البعض من أهالي الولاية على أن تكون هي حاكمة للولاية لخلفيتها النوعية كأنثى. 

ونص المرسوم الذي صدر يوم الجمعة الماضي على حظر ومكافحة التمييز العنصري في ولاية نهر النيل لسنة 2021 وبموجب المرسوم، “يحظر على أي شخص القيام بأي فعل يؤدي إلى التمييز العنصري والتحريض على العنف وبث روح الكراهية أو العنصرية أو التفرقة والتمييز العنصري بأي وسيلة”. وحظر المرسوم تكوين أي مجموعة أو تنظيم أو رابطة على أساس العرق أو العنصر. وجرم المرسوم دعم وتمويل الأنشطة التي تدعو إلى التمييز العنصري، بالإضافة إلى تجريم كل من يقاوم السلطات المختصة أو يرفض الانصياع للأوامر والتوجيهات الصادرة منها. ونص المرسوم أيضاً على عقوبات لكل شخص يخالف القانون من طريق ارتكاب الفعل أو التحريض أو المعاونة أو النقل، وذلك بالسجن لمدة 6 أشهر أو الغرامة على أن لا تتجاوز 100 ألف جنيه أو العقوبتين معاً في حالة تكرار المخالفة. 

هذا المرسوم الحقوقي المحترم من والية نهر النيل يعكس التفاعلات التي تؤثر فيها الثورة على حياة الناس، لا سيما أن البلاد ظلت طوال ثلاثين عاماً تعاني من النعرات العنصرية في ظل التسييس الماكر لنظام الإدارة الأهلية الذي عممه نظام البشير في أنحاء السودان، وكانت أسوأ نماذجه الكارثية في إقليم دارفور حيث أدى تسييس القبائل إلى حرب أهلية استمرت 17 عاماً راح ضحيتها أكثر من 300 ألف مواطن سوداني. 

لقد كانت زيارة وفد الجبهة الثورية إلى ولاية نهر النيل والولاية الشمالية اللتين تحكمانها واليتان من قوى الحرية والتغيير، خطوة موفقة جداً. فالزيارة من ناحية أولى، عكست التضامن الكبير الذي دعمت به الجبهة الثورية الواليتين لتشد من أزرهما في ممارسة إدارة رشيدة للسلطة السياسية في الولايتين، كما دعمت الجبهة الثورية حق الواليتين في الحكم ضد النعرات العنصرية والقبائلية التي برزت في معارضة حكميهما للولايتين. ومن ناحية ثانية، كانت الزيارة فرصة لعرض بنود اتفاقية جوبا للسلام وجوهرها الذي يهدف إلى أن يحكم كل السودانيين أنفسهم في ظل حكم ديمقراطي رشيد وتقسيم عادل للسلطة والثروة، إذ إن اتفاقية جوبا للسلام (التي تضمنت مسارين للشمال والوسط، إلى جانب مسار الشرق) طاولها كثير من التشويش في قضية المسارات عبر ردود فعل مضللة عكست قصوراً عن وعي روح الاتفاقية، لا سيما من طرف بعض القوى السياسوية في شرق السودان. 

ومن ناحية ثالثة عكست الزيارة حقيقة ما أصبح عليه نمط الحكم في السودان بعد توقيع اتفاق جوبا أكتوبر الماضي، إذ إن الجبهة الثورية اليوم هي  جزء لا يتجزأ من السلطة الانتقالية السودانية بشقيها العسكري والمدني، ومن ثم فإن الإصرار على عكس حقيقة ما حدث بعد اتفاق جوبا لجماهير ولاية نهر النيل الولاية الشمالية، من تغيير كبير وحقيقي للحكم في المركز سيكون بمثابة وعد جديد بالسير في درب تحقيق أهداف الثورة نحو السلام والحرية والعدالة. 

وأخيراً، من ناحية رابعة، كانت زيارة وفد الجبهة الثورية قد هدفت أيضاً إلى تبديد أوهام ومخاوف الخطابات العنصرية الشعبوية التي تنشط في وسائل التواصل الاجتماعي ضد أهل دارفور وتصوير حركات الجبهة الثورية وأحزابها على أنها تريد الاستئثار بالحكم و”الانتقام” من أهل الوسط والشمال، بسبب الحرب في دارفور بين العامين 2003 و2020 (وهي حرب أشعلها نظام البشير لأسباب عنصرية لا علاقة لها بالشمال والوسط) وكان ضحاياها أهل دارفور قبل غيرهم، وبطبيعة الحال تلك الدعاية الرخيصة ضد أهل دارفور وضد الجبهة الثورية كانت من تدبير بقايا نظام البشير والثورة المضادة. 

ولعل أبرز المؤشرات التي عكست الوعي الجديد لقوى الثورة بأطيافها كلها، أن وفد الجبهة الثورية في زيارته إلى ولايتي نهر النيل والولاية الشمالية كان معه العضو البارز القيادي في قوى الحرية والتغيير وفي التجمع الاتحادي جعفر حسن عثمان، الذي تميز بطرح قضايا الثورة في المنابر الإعلامية عبر وعي سياسي مستنير ومعرفة بأهداف الثورة. ولقد شكل هذا الثنائي الذي عبر عنه كل من إدريس وعثمان أفضل تعبير عن طبيعة الشراكة المستقبلية التي يطمح إليها السودانيون في الحكم. فهما كشابين قياديين من القوى السياسية الجديدة في السلطة عكسا في دعمهما لواليتي نهر النيل والولاية الشمالية روح القيم والمبادئ التي تبشر بها الثورة من الحرية والعدالة والسلام، إلى جانب ما يعنيه ذلك من دفاع عن حقوق المرأة السودانية التي كانت لها أدوار كبرى في قيادة الثورة السودانية. 

وكان في زيارة وفد الجبهة الثورية لولاية نهر النيل والولاية الشمالية، لأسر الضحايا، تأكيد للمضي في تحقيق أهداف الثورة في الحرية والسلام والعدالة، والتأكيد على الاقتصاص من القتلة وطلب العدالة لقضيتهم، لفتة وطنية وإنسانية في ظل الظروف السياسية. ذلك أن ضحايا الثورة هم محل إجماع الثورة وسبب نجاحها ببذل دمائهم في سبيل أن يصل قادة الحرية والتغيير وقادة الجبهة الثورية إلى التوافق على الحكم من أجل مستقبل ديمقراطي يعكس قيم الثورة ودولة المواطنة. فقد أكد إدريس أثناء لقائه بالجماهير أن “تحقيق العدالة واسترداد الحقوق لا تسقط بالتقادم ولا بد من انصاف المظلومين والقصاص من قتلة الشهداء”. وكان إدريس أكثر من واضح في إدانة الخطاب العنصري حين قال “سنهزم الخطاب العنصري والجهوي”. ومن ناحيته، أكد عثمان أن “الحرية لا تحمى إلا بالقانون وأن القوات النظامية هي مكون أصيل وشريك في الثورة السودانية”. وسيزور إدريس، في وقت لاحق، إقليم شرق السودان وولاياته الثلاث، القضارف وكسلا والبحر الأحمر، لتنوير الجماهير بمكاسب اتفاق جوبا ولا سيما مسار شرق السودان. 

لقد كانت الزيارة الناجحة بمثابة هزيمة للخطاب العنصري وخطاب الإقصاء والتهميش الذي مارسه نظام البشير على السودانيين، وعكست الزيارة وحدة السلطة الانتقالية في الخرطوم بكافة مكوناتها، ووجهت رسالة واضحة لكل العنصريين بأن السودان اليوم يسير بخطى ثابتة نحو فصل جديد من الديمقراطية والحكم الرشيد على أساس المواطنة. وكم كان مؤثراً حين خاطب إدريس جماهير الولاية الشمالية قائلاً بلهجتهم المحببة، “أنا من هِنِيْ” إثر خطاب عثمان (الذي سبقه بالقول ذاته) ليعكس حقيقة أن الشعب السوداني واحد ولن تفرقه العنصرية والجهوية وأساليب التمييز والاقصاء التي كان يمارسها نظام البشير. إن قوة الحقيقة في تعبيرها الصادق عبر خطاب إدريس كانت أوضح من التواءات خطاب العنصرية والسلطوية، لأنها قوة الحقيقة الوطنية الواضحة. فحين ردد إدريس تلك الكلمة الحميمة من لهجة أهل الشمال، لقيت استحساناً ونزلت برداً وسلاماً عليهم، عندما أجابوه، لقد نزلت الكلمة من فمك برداً وسلاماً علينا وأطفأت حمماً أراد لها المتربصون أن تشتعل فخاب ظنهم… نعم أنت من هني وكلنا من “هني”  فالسودان وطن لنا جميعاً. وسنصلح ما أفسده العهد البائد طيلة أعوامه الغابرة. هكذا لقد كانت زيارة وفد الجبهة الثورية بمثابة رسالة وحدة وطنية ضد التفرقة والعنصرية والتمييز حين ضم بينه نساء مناضلات من أحزاب الجبهة الثورية وحركاتها، فكان الوفد بمثابة سودان مصغر، إذ ضم كلاً من محمد داؤود بنداك (رئيس حركة كوش ورئيس مسار الشمال) وستنا محمود أسرتا (حزب مؤتمر البجا المعارض) وإحسان عبد العزيز (الحركة الشعبية)، وأمينة آدم (جيش تحرير السودان- المجلس الانتقالي)، إلى جانب مناضلات أخريات. 

Exit mobile version