الصور كانت مرعبة والمشاهد كانت مأساوية، وشهادات الناجين التي كانت تعكس لحظات الرعب التي عانوها من قصف وقتل وتشريد واغتصاب، لم تكن أقل مأساوية لتكتمل حلقات القصة التراجيدية لإقليم تغراي الإثيوبي.
الدموع التي انهمرت على خدود موناليزا التي لم تبلغ بعد ربيعها الثامن عشر، كانت كافية لتلخيص القصة المأساوية باكملها. كانت الفتاة التي تبدو كزهرة ذابلة، مستلقية على سريرها في المستشفى، وهي ملفوفة بالضمادات الطبية جراء طلقات نارية أطلقها عليها مغتصبويها.
كانت الفتاة تحاول جاهدة أن تروي حكايتها المأساوية، غير أن الدموع تحجرت في حلقها، والعبرات ترقرقت في مقلتيها، مما افسح المجال للمشاهد أن يطلق العنان لخياله، ويتصور تلك اللحظات المرعبة التي اقتحم فيها الجنود بيت أسرتها المتواضع ببزاتهم العسكرية، شاهرين بنادقهم الآلية وتسبقهم الجلبة والصيحية، ويفتشون الغرف واحدة تلو الأخرى، ويكبلون كل من يعثرون عليه من سكان البيت.
إنها لحظة يتوقف فيها الزمن، وتموت فيها الانسانية. فتاة مسكينة، ممزقة الثياب تئن تحت أقدام الجنود المسعورين، تتلوى وتستنجد كغزال جميل وقع فريسة في أنياب الكلاب البرية، ويتعرض لحمها الطري للنهش، ويبلغ المشهد ذروته في السفالة والانحطاط والنذالة عندما يأمر الجنود جد الفتاة أن يناكح حفيذته. هنا يرتفع منسوب الشجاعة لدي الفتاة وتبدي مقاومة شرسة لتلك السادية الرعناء فيكون الجواب طلقا ناريا يخترق جسدها البض، ويتدفق الدم ليرسم لوحة تخلد ملحمة الانسان البطولية منذ الأزل في مواجهة الظلم والقهر.
ويبدو أن هذا كان جزءا ضئيلا استطاعت الكامرات نقله إلينا، ولم يكن خيالنا أحسن حظا ليعكس حجم الأهوال والمعاناة، وظلم الانسان لأخيه في الإنسانية أحيانا وفي الدين والعرق والوطن والانتماء أحيانا أخري. المشهد الحزين لفتاة تغراي أيقظ في نفسي ذكريات أليمة كادت تضيع تفاصيلها، وتتلاشي صورها في زحمة الأحداث اليومية. ذكريات عايشتها وشاهدتها عن كثب بكوني آنذاك صحفيا تلفزيونيا يغطي أحداث اجتياح القوات الإثيوبية للصومال في نهاية عام 2006.
نفس الجنود الذين يستبيحون اليوم مدينة مقللى عاصمة إقليم تغري هم الذين استباحو قبل عقد ونصف مدينتي مقديشو، عروس المحيط الهندي. حينذاك تعرضت مقديشو ومعظم المدن في جنوب الصومال لأفظع الجرائم ضد الأنسانية بيد الاحتلال الإثيوبي الغاشم. القصف العشوائي للمناطق المأهولة بالمدنيين، وتنفيذ سياسة الأرض المحروقة كان شائعا، أما الاغتصاب الجماعي ، والقتل بالهوية والاسر كان يتم بصورة ممنهجة لكسر مقاومة الشعب الصومالي للاحتلال.
ما يتعرض له إقليم تغراي من الفظائع ما هو إلا حلقة من حلقات مسلسل القتل والدمار في القرن الإفريقي بسب سياسات فاشلة أنتهجتها أنظمة مستبدة استتخفت قومها فأطاعوها.
تستحق شعوب قرن أفريقيا،بجميع أطيافها وأعراقها وأديانها، أن تعيش بكرامة وفي جو من الوئام والسلام والرخاء، وآمل أن يأتي يوم تدرك فيه شعوب القرن أن السمات المشتركة التي توحدها أكثر من التي تفرقها، وأنها تحظي بجميع المقومات الأساسية: من الموقع الجغرافي الاستراتيجي وما حباه الله فيه من الثروات الباطنية من بترول ومعادن، والثروة الحيوانية والتنوع الاقتصادي والثقافي مما يؤهلها أن ترتقي إلى مصاف الدول المتقدمة. أتمني أن يرى سكان هذه المنطقة يوما تختفي من حياتهم الحروب والخراب والحكام الدمويون ويحل محلهم العقلاء الذين يقدرون إنهاء معاناة هذه الشعوب التي استمرت عقودا طويلة.